حكايات| «بتعذيبها وهي في سن الثالثة».. رحلة أب لتحويل ابنته إلى «كائن خارق» | صور وفيديو

مود جوليان وأبيها
مود جوليان وأبيها

بإيمان هش مستند على عمدان القسوة والقبح، وبفؤاد عامر بالحقد والرذيلة، وبأيادي ملطخة بالكره والوضاعة، تبنى لويس ديدييه أحد رجال الأعمال الفرنسيين، أفكار نيتشه، وكان على رأسها صناعة الإنسان الخارق الذي لا يقهر بسهولة أو لا يقهر على الإطلاق، ومن هنا بدأ في تنفيذ خططته لإنجاب طفل يكون فطامه وغذائه كل هذه الأفكار والمعتقدات الشاذة..


في عام 1936 ميلادية، أبرم رجل الأعمال الفرنسي الذي كان يبلغ من العمر حينها 34 عامًا، صفقة مع زوجين فقراء يعملان في مجال التعدين في مدينة ليل الفرنسية، وأقنعهما بالتنازل عن ابنتهما جينين البالغة من العمر 6 سنوات ليتزوجها، مقابل أن يوفر لها الأمن المادي والتعليم الجامعي، وسعى ديدييه من وراء ذلك لتربية زوجة تؤمن بكل أفكاره ومعتقداته دون أن تعارضه أو تقف حائلا بينه وبين إنجاب طفل يتم تنشأته ليصبح خارقا عن الطبيعة، وتلك كانت أول خطوة نحو تحقيق طموح حياته.

 

أفكار الحرب
تشكلت نظرة ديدييه المرتبكة والعدائية للعالم خلال سنوات ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وكان مقتنعًا أنه إذا تم تدرب طفل جسديًا وعقليًا وعاطفيًا بشكل صحيح منذ الولادة، فسيكون من الممكن لأي شخص تجاوز الواقع البشري الطبيعي، وما أن أنجبت له جينين طفلة وأسمياها مود وذلك في 23 نوفمبر من عام 1957 ميلادية، شرع في مشروعه، وبدأ في نحتها كأنه تمثال من عجين وبدأ في تربيتها لتكون قادرة على البقاء على قيد الحياة في معسكرات الاعتقال ومقاومة التعذيب أثناء الاستجواب، والانضباط الصارم، واختبارات قوة الإرادة، والجوع، وحتى الافتقار إلى أدنى قدر من الدفء والتعاطف من والديها، لتبدأ الصغيرة التي لا تعي شيئًا رحلة عذاب مريرة استمرت لسنوات.

ابنة.. حقل تجارب
اشتري ديدييه منزلا منعزلا عن الناس في بقعة ريفية بالقرب من كاسيل في شمال فرنسا من أجل إجراء تجاربه على طفلته، وشرع في منع مود من التحدث إلى الناس وهي بعمر الثالثة، ومنعها أيضا من احتضانه أو احتضان والدتها أو تقبيلهما، وإن أظهرت الطفلة أي عاطفة أو مشاعر كان يعاقبها بالحبس في قبو منزلهم لمدة لا تقل عن 6 أسابيع، كما قام بتدريبها على شرب الكحول وأجبرها على ذلك وهي في سن الخامسة ثم ما أن تصل إلى مرحلة السكر يجعلها تسير على حبل دون أن تتأرجح، معتقدا أن من يسير دون اضطراب تحت تأثير الخمر يمكنه أن يفعل أي شئ، كما قام بتعليمها العزف على البيانو والكمان والساكسفون والتينور والبوق والأكورديون وغيرها من الآلات الموسيقة لأنه كان يعتقد أن الموسيقيون فقط من يستطيعون أن ينجوا من معسكرات الاعتقال.

 

اقرأ أيضا| حكايات| قبيلة كوما.. يعيشون عراة ويتشاركون الزوجات ويوأدون التوائم | صور وفيديو

 

الأمر الأكثر فظاعة بالنسبة لمود، أنها تقف وحدها أمام هذا العملاق، فهي لا تتوقع أن تحصل يوما على الراحة أو الحصول على حماية من الأم، فبالنسبة لها هو نصف إله - تحبه وتكرهه في آن واحد - لكنها لا تجرؤ على معارضته، فلم تجد مود خيارا سوى أن تغلق عينيها وترتجف من الخوف على أمل أن ينتهي هذا الكابوس.

أخذ والد مود يمارس هوايته المفضلة في صنع الطفل الخارق المزعوم، فها هو يخضعها لواحدة من تمارينه المجنونة، حيث قطع حنجرة دجاجة وطالبها بشرب دمها، معللا ذلك بأنه جيد للدماغ، كان يلقيها في الماء لتتعلم السباحة وتأخذ هي في الصراخ وضرب الماء في محاولة للنجاة من الغرق، ثم ما أن توشك على الموت يسحبها من الماء ثم يعنفها ويخبرها أنه سيتم معاقبتها على هذا النحيب الغبي، ثم يلقيها مرة أخرى في الماء لتصارع الطفلة الموت غرقا، وحينما علم بخوفها من الفئران، قام بوضعها داخل غرفة مليئة بالفئران وقيدها في كرسي خشبي، ليخبرها أنها ستبقى هنا دون أن تتحرك وأنها ذاهبة للتأمل في الموت، ثم يبتعد ويطفئ ضوء القبو، لتلتقط أذن الصغيرة مجموعة من الأصوات المرعبة لحيوانات صغيرة تندفع وتجري وتنقب، وسط صراخ لا يكاد يتجاوز شفة الطفلة المقفلة والمرتعشة خوفا مما قاله والدها: بأنها إذا فتحت فمها، فإن الفئران، ستشعر به وتتسلق إليه وتخترق فمها وتأكلها من الداخل، مؤكدا لها أنه رأى العديد من الأشخاص يموتون بهذه الطريقة في الأقبية عندما كان يحتمي من الغارات الجوية خلال الحرب. 

 

اقرأ أيضا| حكايات| الأميرة فهمي.. «فتاة ليل وأميرة وقاتلة.. أخذت ورثها بأمر من الملك فؤاد» |صور وفيديو

 

إعلان العصيان
تغرق الطفلة في بركة من الخوف تشعر بالقيود تلتف حول روحها وفؤادها، ورغم ذلك ما أن بلغت مود سن الـ 17 من عمرها، أعلنت العصيان على تجارب والدها، الذي لم يجد سبيلا أمام حالة التمرد تلك إلا أن يزوجها لرجل في الخمسين من عمره والذي كان مثلي الجنسية، ولكن مدرس الموسيقى الذي كان يعلم مود اقترح على أبيها أن يزوجها لشاب في الـ 35 من عمره يسمى ريتشارد، واستجاب والدها لهذا المقترح، وما أن تزوجت مود حتى طلبت الإنفصال بعدها بفترة ثم تزوجت من زوجها الثاني، وكان يدعى مارك، والذي لا تزال متزوجة منه حتى الآن وتعيش في سعادة وأمان معه، وهي حاليًا تبلغ من العمر 60 عامًا وأصبح اسم شهرتها مود جوليان، وقد ألفت كتابًا روت فيه قصتها وما فعله فيها والدها، وتصدر كتابها قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في فرنسا، وأصبحت استشاري نفسي للأطفال لتساعدهم على تجاوز ما يمرون به من تجارب قاسية.

تقول مود في كتابها الذي اسمته «الفتاة الوحيدة في العالم»: «إنها وجدت عزائها الوحيد في تلك النشأة القاسية في محادثة الحيوانات، حيث كنت أعطي أذني سرا لثرثرة الطيور في الحديقة، فها هو أحدهم يسأل سؤالا، وأخر يرد، ويتدخل ثالث ثم يتحادثون جميعا معا، كما أن الموسيقى هونت كثيرا من مراراة ما كنت ألاقيه، فالموسيقى لها محادثاتها الخاصة، فها هي اليد اليمنى تنطق بعبارة، واليسرى تستجيب لها، ثم اليمنى تلتقطها مرة أخرى، وتتبعها اليسرى وينتهي الأمر باليدين يلعبان معا، كنت أشعر بالسعادة بهذه الحوارات الموسيقية التي كنت لا أمل منها أبدا».

 

تضيف مود في كتابها: «لقد مرت أكثر من 40 عاما منذ أن تركت منزل طفولتي لأتزوج.. لوقت طويل، لم أستطع التحدث عن الماضي وما مررت به سواء لزوجي أو أصدقائي ولا حتى لمعالجي النفسي.. ولكني كنت سعيدة جدا للهروب من هذا السجن لدرجة أنني لم أرغب في العودة مرة أخرى، حتى إنني كنت أنزعج جدا حين كنت أذهب لمقابلة والدي ووالدتي كل أسبوع، ولكني كنت مضطرة للذهاب حتى لا أشعر بالذنب أو أشعر أنني تخليت عنهما».

رحلة التعافي
وتستطرد مود: «حينما خرجت للعالم كنت شابه فكان عليّ أن أتعلم أكثر عن الأمور الأساسية في الحياة، مثل التحدث إلى الغرباء، وإيجاد طريقي في الأماكن، وتناول الطعام في مطعم مع الأصدقاء، قد يبدو الأمر سهلا للكثيرين ولكن بالنسبة لي كيف تأكل وتتحدث وتشرب وتمضغ وترد وتبتلع في نفس الوقت دون اختناق؟، أنا لم أرى طبيب أسنان حتى بلغت الـ 18 من عمري، لذلك كانت أسناني تنهار، ولثتي مليئة بالخراجات، وتناول الكحول بكميات كبيرة قد أضر بالكبد بشكل لا يمكن إصلاحه.. وبعد وفاة والدي في عام 1979، بدأ جسدي يعبر عن معاناته بنوبات الهلع المنهكة وأدركت أنني يجب أن أتلقى علاجا نفسيا حتى أتجاوز ذلك».

 

وتشير مود إلى أن: «والدتها تظل ضحية والدها والتي مازالت تؤمن بنظرياته، ولذلك هي لا تستطيع بناء علاقة طبيعية معها، ولكنهم بالكاد على تواصل على أمل أن تغير والدتها معتقداتها وأفكارها التي تربت عليها مع زوجها».


من الأمور التي تؤكد عليها مؤلفة كتاب «الطفلة الوحيدة في العالم»، هو أنها تريد أن يقرأ الجميع كتابها كـدليل على إمكانية الخروج من الأفق المسدود والحياة القاسية مثل تلك الحياة التي عايشتها على مدار سنوات، لتخرج من تلك التجربة قادرة على أن تُغير بصورة جذرية مسار حياتها رغم حالة الخوف المفرط من كل شئ حتى أبسط الأشياء والممارسات كالأكل والتحدث وركوب المواصلات وغيرها من أمور الحياة العادية.