زيارة بطعم الحريق

إيهاب فتحي
إيهاب فتحي

‭ ..‬تستدعى‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬أحداث‭ ‬الحاضر‭ ‬التاريخ‭ ‬وتجعلك‭ ‬تتساءل‭ ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬الحاضر‭ ‬غير‭ ‬مدرك‭ ‬لحقائق‭ ‬التاريخ؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لايعدو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرور‭ ‬سريع‭ ‬لحدث‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬ارتبط‭ ‬بظلال‭ ‬بعيدة‭ ‬للتاريخ؟

تدافعت‭ ‬أسئلة‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬مع‭ ‬هذين‭ ‬السؤالين‭ ‬أثناء‭ ‬متابعة‭ ‬زيارة‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد‭ ‬الثانى‭ ‬ونجله‭ ‬وبعض‭ ‬أفراد‭ ‬عائلته‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬وتجوالهم‭ ‬فى‭ ‬عدد‭ ‬من‭  ‬الأماكن‭ ‬التى‭ ‬ارتبطت‭ ‬بحكم‭ ‬الأسرة‭ ‬العلوية‭ ‬حتى‭ ‬قيام‭ ‬ثورة‭ ‬23‭ ‬يوليو‭.‬

صور‭ ‬الزيارة‭ ‬والفيديوهات‭ ‬التى‭ ‬انتشرت‭ ‬على‭ ‬وسائط‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعى‭ ‬صنعت‭ ‬تخيلات‭ ‬طريفة‭ ‬كأن‭ ‬الأنتيكات‭ ‬المعروضة‭ ‬للبيع‭ ‬فى‭ ‬واجهات‭ ‬المحلات‭ ‬المتخصصة‭ ‬والقطع‭ ‬الأثرية‭ ‬المحافظ‭ ‬عليها‭ ‬فى‭ ‬الصناديق‭ ‬الزجاجية‭ ‬بالمتاحف‭ ‬قررت‭ ‬فجأة‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬أسرها‭ ‬والانطلاق‭ ‬لتتجول‭  ‬بيننا‭ ‬وفى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬توفر‭ ‬علينا‭ ‬عناء‭ ‬شراؤها‭ ‬من‭ ‬المحلات‭ ‬أوالذهاب‭ ‬لمشاهدتها‭ ‬فى‭ ‬المتاحف‭.‬

بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬التخيلات‭ ‬الطريفة‭ ‬فزيارة‭ ‬بقايا‭ ‬الأسرة‭ ‬العلوية‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الحاضر‭ ‬دائما‭ ‬ما‭ ‬تتبعها‭ ‬فى‭ ‬حركتها‭ ‬ظلال‭ ‬التاريخ‭ ‬لسبب‭ ‬بسيط‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأسرة‭ ‬أصبحت‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬ملفات‭ ‬التاريخ‭ ‬الموضوعة‭ ‬على‭ ‬الأرفف‭ ‬فى‭ ‬المكتبات‭ ‬أويتم‭ ‬دراستها‭ ‬فى‭ ‬الأقسام‭ ‬المتخصصة‭ ‬بالجامعات‭ ‬ولا‭ ‬يشكل‭ ‬ظهورها‭ ‬فى‭ ‬الحاضر‭ ‬سوى‭ ‬مشهد‭ ‬فلكلورى‭ ‬ممزوج‭ ‬بترويج‭ ‬تجارى‭ ‬لبعض‭ ‬الأماكن،‭ ‬أوشخصيات‭ ‬تريد‭ ‬طربشة‭ ‬حاضرها‭ ‬أى‭ ‬ارتداء‭ ‬الطربوش‭ ‬والالتصاق‭ ‬بمظاهر‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬لتحقيق‭ ‬تمايز‭ ‬اجتماعى‭ ‬زائف‭ ‬ومضحك‭.‬

هذه‭ ‬الزيارة‭ ‬فى‭ ‬حاضرنا‭ ‬شاءت‭ ‬أم‭ ‬أبت‭ ‬تجعل‭ ‬الظلال‭ ‬أكثر‭ ‬حدة‭ ‬ووضوحًا‭ ‬لتستدعى‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬وتحفز‭ ‬محبى‭ ‬التنقيب‭ ‬فى‭ ‬ملفات‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬لمزيد‭ ‬من‭ ‬البحث،‭ ‬لكن‭ ‬تاريخ‭ ‬هذه‭ ‬الأسرة‭ ‬التى‭ ‬حكمت‭ ‬مصر‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬ونصف‭ ‬ليس‭ ‬هينًا‭ ‬وتتراكم‭ ‬تفاصيله‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬بدايات‭ ‬الحكم‭ ‬جيدة‭ ‬وقوية‭ ‬مع‭ ‬محمد‭ ‬على‭ ‬باشا‭ ‬مؤسس‭ ‬الدولة‭ ‬المصرية‭ ‬الحديثة‭ ‬فى‭ ‬نسختها‭ ‬الأولى‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬محطات‭ ‬كثيرة‭ ‬فى‭ ‬حكم‭ ‬هذه‭ ‬الأسرة‭ ‬لا‭ ‬تحمل‭ ‬فى‭ ‬طياتها‭ ‬سوى‭ ‬الكوارث‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الاحتلال‭ ‬وإغراق‭ ‬مصر‭ ‬فى‭ ‬الديون‭ ‬حتى‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬المحطة‭ ‬النهائية‭ ‬من‭ ‬حكمها‭ ‬بوصول‭ ‬فاروق‭ ‬الأول‭ ‬إلى‭ ‬عرش‭ ‬مصر‭ ‬وهى‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الفترات‭ ‬اضطرابًا‭ ‬فى‭ ‬التاريخ‭ ‬المصرى‭ ‬الحديث‭.‬

عندما‭ ‬نحاول‭ ‬البحث‭ ‬فى‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذه‭ ‬المحطة‭ ‬المضطربة‭ ‬والنهائية‭ ‬أو‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬فاروق‭ ‬ستجد‭ ‬دوامة‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬وآلاف‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التى‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬حكم‭ ‬هذه‭ ‬الأسرة‭ ‬قد‭ ‬انتهت‭ ‬مدة‭ ‬صلاحيته‭ ‬ووجب‭ ‬عليها‭ ‬الرحيل‭ ‬بكل‭ ‬إرثها‭ ‬فى‭ ‬قطار‭ ‬التاريخ‭ ‬ولا‭ ‬يتبقى‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬الزيارات‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الفلكلورى‭ ‬والأنتيكات‭ ‬التى‭ ‬قررت‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬واجهات‭ ‬المحلات‭ ‬لتتجول‭ ‬بيننا‭ ‬فى‭ ‬الحاضر‭.‬

رغم‭ ‬كثافة‭ ‬التفاصيل‭ ‬والأحداث‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬فاروق‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬حدثًا‭ ‬مركزيًا‭ ‬سلم‭ ‬لهذه‭ ‬الأسرة‭ ‬شهادة‭ ‬نهاية‭ ‬صلاحية‭ ‬حكمها‭ ‬ووقع‭ ‬على‭ ‬ملفها‭ ‬بالحفظ‭ ‬فى‭ ‬مخازن‭ ‬التاريخ‭ ‬وهو‭ ‬حريق‭ ‬القاهرة‭ ‬الذى‭ ‬انفجرت‭ ‬أحداثه‭ ‬فى‭ ‬26‭ ‬يناير‭ ‬1952‭ ‬عقب‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬المعركة‭ ‬البطولية‭ ‬التى‭ ‬خاضتها‭ ‬قوات‭ ‬الشرطة‭ ‬المصرية‭ ‬ضد‭ ‬الاحتلال‭ ‬البريطانى‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬الإسماعيلية‭.‬

مازال‭ ‬حريق‭ ‬القاهرة‭ ‬يمثل‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬لغزًا‭ ‬فى‭ ‬ملابساته‭ ‬ومن‭ ‬كان‭ ‬ورائه‭ ‬لكن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬حدثًا‭ ‬بهذا‭ ‬الحجم‭ ‬والفوضوية‭ ‬يشير‭ ‬بقوة‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فى‭ ‬وقت‭ ‬حدوثه‭ ‬نظام‭ ‬حكم‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬البلاد‭ ‬بل‭ ‬وصل‭ ‬به‭ ‬الانهيار‭ ‬والتحلل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬احتراق‭ ‬العاصمة‭ ‬وهو‭ ‬يقف‭ ‬متفرجًا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مشاركًا‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الإجرام‭.‬

احتفظت‭ ‬صحافة‭ ‬أخبار‭ ‬اليوم‭ ‬العريقة‭  ‬بأرشيف‭ ‬غنى‭ ‬يستطيع‭ ‬بالكلمة‭ ‬والصورة‭ ‬تقديم‭ ‬رواية‭ ‬موثقة‭ ‬حول‭ ‬أحداث‭ ‬مصر‭ ‬ومازالت‭ ‬التغطيات‭ ‬الصحفية‭ ‬التى‭ ‬واكبت‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬ساخنة‭ ‬فى‭ ‬محتواها‭ ‬كأن‭ ‬الصحفيين‭ ‬الذين‭ ‬حرروا‭ ‬مادتها‭ ‬انتهوا‭ ‬منها‭ ‬قبل‭ ‬قليل‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬72‭ ‬عامًا‭.‬

استطاع‭ ‬أرشيف‭ ‬مجلتنا‭ ‬العزيزة‭ ‬‭"‬آخرساعة‭" ‬تقديم‭ ‬تغطية‭ ‬شاملة‭ ‬ودقيقة‭ ‬لحريق‭ ‬القاهرة‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬أطلقت‭ ‬عليه‭ "‬آخر‭ ‬ساعة‭" ‬فى‭ ‬تغطيتها‭ ‬عنوان‭ "‬أسرار‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬يوم‭ ‬السبت‭ ‬الأسود‭"‬،‭ ‬للحقيقة‭ ‬أثناء‭ ‬تصفح‭ ‬هذا‭ ‬الأرشيف‭ ‬الغنى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تفصيلات‭ ‬أحداث‭ ‬الحريق‭ ‬ذاته‭ ‬هى‭ ‬موضع‭ ‬الاهتمام‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬مايهم‭ ‬الأخبار‭ ‬والتقارير‭ ‬والتحقيقات‭ ‬وصفحات‭ ‬أخبار‭ ‬المجتمع‭ ‬التى‭ ‬سبقت‭ ‬أو‭ ‬تلت‭ ‬الحدث‭ ‬بأيام‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬المادة‭ ‬المكثفة‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬تعطى‭ ‬صورة‭ ‬دقيقة‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬والنظام‭ ‬السياسى‭ ‬الذى‭ ‬احترقت‭ ‬عاصمته‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدرى‭ ‬أو‭ ‬يدرى‭ ‬حتى‭ ‬وقعت‭ ‬هذه‭ ‬الكارثة‭ ‬وماذا‭ ‬كان‭ ‬رد‭ ‬فعله‭ ‬تجاهها؟

الفترة‭ ‬الوجيزة‭ ‬التى‭ ‬سبقت‭ ‬الحريق‭ ‬نجد‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬بلد‭ ‬ومجتمع‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬غليان‭ ‬ومحاصر‭ ‬بكم‭ ‬من‭ ‬الكوارث‭ ‬غير‭ ‬العادية‭ ‬التى‭ ‬تجعل‭ ‬حياة‭ ‬المصريين‭ ‬شبه‭ ‬مستحيلة‭ ‬مع‭ ‬بلادة‭ ‬غير‭ ‬طبيعية‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الملكى‭ ‬الحاكم‭ ‬فى‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬المصائب‭ ‬التى‭ ‬تكفى‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬لسقوط‭ ‬عشرات‭ ‬الأنظمة‭ ‬السياسية‭ ‬وليس‭ ‬نظام‭ ‬واحد‭.‬

‭" ‬الدوامة‭ ‬التى‭ ‬تبلع‭ ‬50‭ ‬ألف‭ ‬مصرى‭ ‬كل‭ ‬عام‭" ‬تتصور‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬يغطى‭ ‬حوادث‭ ‬الغرق‭ ‬على‭ ‬الشواطئ‭ ‬فى‭ ‬الصيف‭ ‬لكن‭ ‬التحقيق‭ ‬يصف‭ ‬حال‭ ‬نصف‭ ‬مليون‭ ‬مصرى‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬أخر‭ ‬تماما‭ " ‬نصف‭ ‬مليون‭ ‬من‭ ‬المصريين‭ ‬وجوههم‭ ‬هزيلة‭ ‬صفراء‭ ‬وعيونهم‭ ‬الجاحظة‭ ‬فى‭ ‬محاجرها‭ ‬الذابلة‭ ‬وصدورهم‭ ‬الواهنة‭ ‬حبلى‭ ‬بالموت‭ ‬والفناء،هؤلاء‭ ‬هم‭ ‬الذين‭  ‬يدورون‭ ‬فى‭ ‬الدوامة‭ ‬المرعبة‭ ..‬دوامة‭ ‬السل‭ .. ‬ولايجدون‭ ‬يدا‭ ‬تمتد‭ ‬إليهم‭. ..‬يدورون‭ ‬فيها‭ ‬حتى‭ ‬يصلوا‭ ‬إلى‭ ‬قاعها‭ .. ‬ثم‭ ‬يختفون‭ "‬‭ ‬يغطى‭ ‬هذا‭ ‬التحقيق‭ ‬معاناة‭ ‬مرضى‭ ‬السل‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬وهنا‭ ‬لا‭ ‬نتكلم‭ ‬عن‭ ‬أزمة‭ ‬عدم‭ ‬توافر‭ ‬الدواء‭ ‬مثلا‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬أماكن‭ ‬لعلاج‭ ‬المرضى‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬كلها‭ ‬ويذكر‭ ‬التحقيق‭ ‬إحصائية‭ ‬مخيفة‭ ‬فلايوجد‭ ‬سوى‭ ‬25‭ ‬مصحة‭ ‬للعلاج‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬مصر‭ ‬وحسب‭ ‬تعداد‭ ‬السكان‭ ‬وقتها‭ ‬توضح‭ ‬الإحصائية‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬800‭ ‬ألف‭ ‬مصرى‭ ‬مصحة‭ ‬علاج‭ ‬ولكن‭ ‬الأغرب‭ ‬هو‭ ‬معاملة‭ ‬النظام‭ ‬الملكى‭ ‬للمصابين‭ ‬بالمرض‭ ‬فعندما‭ ‬تظهر‭ ‬أعراض‭ ‬المرض‭ ‬على‭ ‬عامل‭ ‬أو‭ ‬موظف‭ ‬يتم‭ ‬طرده‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬ولايتمتع‭ ‬بأى‭ ‬تغطية‭ ‬تأمينية‭ ‬أما‭ ‬الفلاحون‭ ‬فيصف‭ ‬التحقيق‭ ‬حالهم‭ "‬وطرد‭ ‬الإقطاعيون‭ ‬فلاحيهم‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬يوم‭"  ‬ويطالب‭ ‬التحقيق‭ ‬بوضع‭ ‬تشريع‭ ‬فى‭ ‬القانون‭ ‬يوفر‭ ‬لهؤلاء‭ ‬المرضى‭ ‬وأسرهم‭ ‬أى‭ ‬مساعدة‭ ‬اجتماعية‭ ‬لأن‭ ‬رب‭ ‬الأسرة‭ ‬الذى‭ ‬يصاب‭ ‬بهذا‭ ‬المرض‭ ‬تتشرد‭ ‬أسرته‭ ‬من‭ ‬بعده‭.‬

فى‭ ‬نفس‭ ‬الفترة‭ ‬الزمنية‭ ‬التى‭ ‬سبقت‭ ‬الحريق‭ ‬بأيام‭ ‬نرى‭ ‬تغطية‭ ‬صحفية‭ ‬عن‭ ‬أسر‭ ‬الشهداء‭ ‬والمصابين‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬المقاومة‭ ‬البطولية‭ ‬ضد‭ ‬المحتل‭ ‬البريطانى‭ ‬فى‭ ‬مدن‭ ‬القناة،‭ ‬تتصور‭ ‬أن‭ ‬التحقيق‭ ‬يروى‭ ‬مظاهر‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالمصابين‭ ‬والشهداء‭ ‬وأبنائهم‭ ‬لكن‭ ‬عنوان‭ ‬التغطية‭ ‬صادم‭ " ‬أسر‭ ‬الشهداء‭ ‬والمصابين‭ ‬فى‭ ‬القناة‭ ‬هل‭ ‬نستهما‭ ‬مصر؟‭" ‬تنقل‭ ‬التغطية‭ ‬لقاءات‭ ‬مع‭ ‬أسر‭ ‬الشهداء‭ ‬والمصابين‭ ‬تواجه‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأسر‭ ‬خطر‭ ‬الطرد‭ ‬من‭ ‬الغرف‭ ‬البائسة‭ ‬التى‭ ‬تسكن‭ ‬بها‭ ‬أو‭ ‬طردت‭ ‬بالفعل‭ ‬لعدم‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬دفع‭ ‬الإيجار‭ ‬لاستشهاد‭  ‬عائلها‭ ‬أو‭ ‬إصابته‭ ‬بإصابة‭ ‬تمنعه‭ ‬من‭ ‬العمل‭.‬

فى‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الأسر‭ ‬تتوقع‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬أى‭ ‬مساعدة‭ ‬لأن‭ ‬الصحف‭ ‬كانت‭ ‬تنشر‭ ‬قوائم‭ ‬بالتبرعات‭ ‬التى‭ ‬يقدمها‭ ‬النبيل‭ ‬فلان‭ ‬والأميرة‭ ‬علانة‭ ‬والوجيه‭ ‬الأمثل‭ ‬لدعم‭ ‬أعمال‭ ‬المقاومة‭ ‬فى‭ ‬القناة‭ ‬وأسر‭ ‬الشهداء‭ ‬والمصابين‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬التبرعات‭ ‬الوهمية‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬لهم‭ ‬وعندما‭ ‬ذهبت‭ ‬أسر‭ ‬الشهداء‭ ‬والمصابين‭ ‬إلى‭ ‬مبرة‭ ‬محمد‭ ‬على‭ ‬المسئولة‭ ‬عن‭ ‬جمع‭ ‬التبرعات‭ ‬طردتهم‭ ‬ولم‭ ‬تعطهم‭ ‬شيئًا‭ ‬أما‭ ‬حكومة‭ ‬جلالته‭ ‬فلم‭ ‬تسمع‭ ‬عنهم‭ ‬بالمرة‭.‬

تصف‭ ‬التغطية‭ ‬اللقاءات‭ ‬التى‭ ‬أجرتها‭ ‬مع‭ ‬أسر‭ ‬الشهداء‭ ‬والمصابين‭ "‬نعم‭ ‬إنها‭ ‬قصص‭ ‬محزنة‭ ..‬مخزية‭ ‬ولكنها‭ ‬قصص‭ ‬حقيقية‭ " ‬فأحد‭ ‬المصابين‭ ‬واسمه‭ ‬عبد‭ ‬السلام‭ ‬رياض‭ ‬تعرض‭ ‬لإصابة‭ ‬أقعدته‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬ولم‭ ‬تقدم‭ ‬له‭ ‬أى‭ ‬مساعدة‭ ‬مما‭ ‬اضطره‭ ‬للتسول‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طرد‭ ‬من‭ ‬بيته‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإنفاق‭ ‬على‭ ‬زوجته‭ ‬وأولاده‭ ‬الخمسة‭ ‬والأمنية‭ ‬الأكبر‭ ‬التى‭ ‬يرجوها‭ ‬المصاب‭ ‬عبد‭ ‬السلام‭ ‬رياض‭ ‬من‭ ‬حكومة‭ ‬جلالته‭ ‬هى‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ " ‬بطانية‭ " ‬لأنه‭ ‬لايستطيع‭ ‬هو‭ ‬وأولاده‭ ‬الخمسة‭ ‬وزوجته‭ ‬تحمل‭ ‬برد‭ ‬الشتاء‭.‬

أما‭ ‬أسرة‭ ‬الشهيد‭ ‬حنفى‭ ‬زهران‭ ‬فابنه‭ ‬الأكبر‭ ‬يعمل‭ ‬بقروش‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإنفاق‭ ‬على‭ ‬أمه‭ ‬وإخوته‭ ‬الصغار‭ ‬وكلما‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬مبرة‭ ‬محمد‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬أى‭ ‬مساعدة‭ ‬من‭ ‬التبرعات‭ ‬يصرفونه‭ ‬وأخيرًا‭ ‬طالبوه‭ ‬بعدم‭ ‬المجيئ‭ ‬،وتوالت‭ ‬فى‭ ‬التغطية‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬الحقيقية‭ ‬والحزينة‭ ‬والمخزية‭ ‬فى‭ ‬تفاصيلها‭ ‬لجلالته‭ ‬ونظامه‭ ‬السياسى‭ ..‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬نظام‭.‬

تتصور‭ ‬أن‭ ‬كارثة‭ ‬بحجم‭ ‬حريق‭ ‬القاهرة‭ ‬ستجعل‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬ينتبه‭ ‬أو‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬المرفهة‭ ‬ستتخلى‭ ‬عن‭ ‬ترفها‭ ‬أوتحاول‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬مراعاة‭ ‬شعور‭ ‬القاهرة‭ ‬المكلومة‭ ‬ومئات‭ ‬الضحايا‭ ‬والمصابين،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬الأسرة‭ ‬العلوية‭ ‬ومجتمع‭ ‬النصف‭ ‬فى‭ ‬المائة‭ ‬وقتها‭ ‬حدث‭ ‬آخر‭ ‬تمامًا‭ ‬وهو‭ ‬زفاف‭ ‬النبيلة‭ ‬ألفيا‭ ‬كريمة‭ ‬النبيل‭ ‬عباس‭ ‬حليم‭ ‬إلى‭ ‬الوجيه‭ ‬شهريار‭ ‬راتب‭ ‬والذى‭ ‬اهتمت‭ ‬بأدق‭ ‬تفاصيله‭ ‬صفحات‭ ‬المجتمع‭ ‬فالزفاف‭ ‬دعا‭ ‬إليه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مائة‭ ‬من‭ ‬ألمع‭ ‬سيدات‭ ‬ورجال‭ ‬المجتمع‭ ‬وأقيم‭ ‬فى‭ ‬قصر‭ ‬الأمير‭ ‬سعيد‭ ‬طوسون‭ ‬بالزمالك‭ ‬والمضحك‭ ‬أن‭ ‬صفحات‭ ‬المجتمع‭ ‬تصف‭ ‬الحفل‭ ‬بالبساطة‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬صور‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف‭ ‬وما‭ ‬كتب‭ ‬عنه‭ ‬لايوحى‭ ‬بهذه‭ ‬البساطة‭ ‬إطلاقا‭ ‬ولعل‭ ‬كلمة‭ ‬البساطة‭ ‬تلك‭ ‬ناتجة‭ ‬عن‭ ‬شعور‭ ‬بالذنب‭ ‬عند‭ ‬كاتب‭ ‬الموضوع‭ ‬بأنه‭ ‬يغطى‭ ‬تفاصيل‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النوعية‭ ‬والقاهرة‭ ‬محترقة‭ ‬لكن‭ ‬بالتأكيد‭ ‬أصحاب‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف‭ ‬لم‭ ‬ينتابهم‭ ‬أبدا‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬بالذنب‭.‬

لم‭ ‬تستطع‭ ‬كلمة‭ ‬البساطة‭ ‬إنقاذ‭ ‬كاتب‭ ‬الموضوع‭ ‬وهو‭ ‬يصف‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحفل‭ "‬صفت‭ ‬الموائد‭ ‬فى‭ ‬صالات‭ ‬القصر‭ ‬الواسعة‭ ‬الفخمة‭ " ‬أو‭ ‬ملابس‭ ‬الأميرات‭ ‬والنبيلات‭ ‬اللائى‭ ‬حضرن‭ ‬الحفل‭ ‬ليباركن‭ ‬الزفاف‭ ‬السعيد‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬احتفاء‭ ‬خاص‭ ‬بسفير‭ ‬تركيا‭ ‬الذى‭ ‬حضر‭ ‬الحفل‭ ‬أو‭ ‬بمصطلح‭ ‬الأسرة‭ ‬العلوية‭ ‬سفير‭ ‬الباب‭ ‬العالى‭ .‬

كأن‭ ‬الأسرة‭ ‬العلوية‭ ‬لا‭ ‬يشغلها‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬الاضطراب‭ ‬سوى‭ ‬حفلات‭ ‬الزفاف‭ ‬والمآدب‭ ‬فجلالته‭ ‬أقام‭ ‬مأدبة‭ ‬احتفاءً‭ ‬بأمراء‭ ‬الأسرة‭ ‬العلوية‭ ‬الأمراء‭ ‬محمد‭ ‬عبد‭ ‬المنعم‭ ‬وسعيد‭ ‬طوسون‭ ‬ـ‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬صاحب‭ ‬القصر‭ ‬الذى‭ ‬أقيم‭ ‬به‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف‭ ‬ــ‭ ‬والأمير‭ ‬اسماعيل‭ ‬داود‭ ‬وعشرات‭ ‬من‭ ‬الأمراء‭ ‬الآخرين‭ ‬غير‭ ‬النبيل‭ ‬عباس‭ ‬حليم‭ ‬ــ‭ ‬والد‭ ‬العروس‭ ‬بحفل‭ ‬الزفاف‭ ‬ــ‭ .‬

بعيدا‭ ‬عن‭ ‬حفلات‭ ‬وموائد‭ ‬جلالته‭ ‬واسرته‭ ‬المنفصلة‭ ‬تماما‭ ‬عما‭ ‬يحدث‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬وبسبب‭ ‬حجم‭ ‬الاضطراب‭ ‬وكارثية‭ ‬حريق‭ ‬القاهرة‭ ‬تم‭ ‬استدعاء‭ ‬الجيش‭ ‬وإعلان‭ ‬الأحكام‭ ‬العرفية‭ ‬لحفظ‭ ‬النظام‭ ‬ومنع‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬الانهيار‭ ‬الكامل‭ ‬وهنا‭ ‬تقدم‭ ‬التغطيات‭ ‬الصحفية‭ ‬صورة‭ ‬دقيقة‭ ‬بعد‭ ‬نزول‭ ‬القوات‭ ‬إلى‭ ‬شوارع‭ ‬القاهرة‭ ‬فتؤكد‭ ‬هذه‭ ‬التغطيات‭ ‬عودة‭ ‬الانضباط‭ ‬والأمان‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬التى‭ ‬عانت‭ ‬مصيبة‭ ‬الحريق‭ ‬وتقدم‭ ‬عشرات‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬عن‭ ‬حسن‭ ‬تعامل‭ ‬قوات‭ ‬الجيش‭ ‬مع‭ ‬المواطنين‭ ‬بعد‭ ‬فرض‭ ‬حظر‭ ‬التجوال‭ ‬والتدخل‭ ‬الفورى‭ ‬لنجدة‭ ‬أى‭ ‬مريض‭ ‬يحتاج‭ ‬مساعدة‭ ‬طبية‭.‬

لقد‭ ‬جعل‭ ‬حريق‭ ‬القاهرة‭ ‬قبل‭ ‬72‭ ‬عاما‭ ‬شتاء‭ ‬القاهرة‭ ‬ملتهبًا‭ ‬وكشف‭ ‬أيضا‭ ‬هشاشة‭ ‬النظام‭ ‬الملكى‭ ‬الذى‭ ‬انتهت‭ ‬صلاحيته‭ ‬ليدخل‭ ‬مخازن‭ ‬التاريخ‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬منه‭ ‬الآن‭ ‬إلا‭ ‬زيارات‭ ‬وأنتيكات‭ ‬فلكلورية‭ ‬تجر‭ ‬وراءها‭ ‬ظلال‭ ‬تاريخ‭ ‬محمل‭ ‬بطعم‭ ‬الحريق‭ ‬وبلاهة‭ ‬المطربشين‭.   ‬

;