سيزا قاسم أراها وما زلت أرى صورتها أمامى ودودة، مبتسمة، مرحبة ومحبة دائما. عرفتها أستاذة فى المؤتمرات والندوات والمحافل العلمية، عرفتها من كتابتها ومؤلفاتها وخاصة ما كتبته عن السيموطيقا وتابعتها عن بعد، ولكن كان أول لقاء لنا عن قرب تحدثنا فيه فى أول مؤتمر للقسم وأول مشاركة لى ببحث، وكان عنوان المؤتمر «النص والسياق» وعنوان بحثى «القارئ والنص». فى هذا اليوم وبعد إلقاء بحثى أثنت عليه وأبدت إعجابها به وكان ذلك شهادة أعتز بها من أستاذة كبيرة إلى باحثة فى بداية حياتها العلمية........ وتوالت الأبحاث واستمر التشجيع والمساندة.
وسنبدأ بالحديث عن علاقتى مع سيزا على المستوى الشخصى ثم عن إسهاماتها فى مجال النقد الأدبى:
أولا: على المستوى الشخصى:
كان أول لقاء خارج الجامعة بعيدا عن الأبحاث فى جاليرى للفنون التشكيلية يديره ابنى حيث لبت دعوتى لرؤية أحد المعارض وجاءت مع زوجها وتحدثنا عن الفن واللوحات وحياتها الشخصية وكعادتها كانت ودودة مبتسمة ومحبة. ومضت بنا الأعوام نلتقى أحيانا ونبعد أحيانا أخرى ولكن دائما ما يكون اللقاء بيننا بترحاب وحب وفرحة لهذا اللقاء.
اقرأ أيضاً| سلمى مبارك.. السلسلة الذهبية
واقتربنا أكثر منذ عامين للإعداد لكتاب عن الأدب المقارن يشارك فيه معنا مجموعة من الزملاء والباحثين فى مجالات مختلفة، وكان اللقاء فى منزلها ليس فقط من أجل صدور الكتاب وأهميته ولكن من أجل لقائها والحديث معها حول الكتاب وغيره من قضايا.
أما اللقاء الأخير فكان من خلال وسائل التواصل الإجتماعى (الواتس آب) ننتبادل فيه الرسائل وما نريد مشاركته معا: أغنية، قطعة موسيقية، خبر أو حدث وكذلك من خلال (الفيس بوك) فقد كانت تكتب مرات قليلة عن مقالة علمية أو شىء أعجبها أو إشارة إلى حدث ما، وكثيرا ما تكتب عن زوجها الراحل، تناجيه وتذكره بالخير وتتمنى اللحاق به وكنت أحترم هذه المشاعر الفياضة تجاهه ويؤلمنى شعورها بالوحدة والألم واليأس والحزن.
أما اللقاء الأخير هاتفيا فكان حين دعتنى للانضمام إلى مجموعة من أصدقائها فى منزلها ولكنى للأسف إعتذرت لارتباطى بمواعيد أخرى.
وبدأت صحتها تسوء وتتردد على المستشفى ونسأل عنها ولكنها فى مرضها الأخير لم تعطنا الفرصة للسؤال والوداع.
ثانيا: الناقدة والباحثة متعددة الاهتمامات والإسهامات:
اــ سيزا والسيموطيقا: هى رائدة فى هذا المجال بلا شك ففى بداية كتابها القارئ والنص ـ العلاقة والدلالة (المجلس الأعلى للثقافة 2002) تطرح فى المدخل اسئلة هامة وهى:
كيف نستقبل اللغة؟ وكيف يفهم البشر بعضهم البعض؟ وتجيب قائلة:«اللغة شأنها شأن كل ما يتعلق بالكيان البشرى، لها جانب طبيعى بيولوجى معطى ولها جانب مكتسب» لذا تبدأ سيزا فى الحديث حول تعاملنا مع اللغة فى المجال الإنسانى وتتطرق إلى العلاقة بين الفهم والمعرفة. ثم تؤكد أن السيموطيقا تسعى إلى تعريف العلاقات التى يبدعها البشر وتصنيفها وتحليلها وهى المنهج الذى تسلكه لقراءة العلاقات والنصوص.
السؤال الثانى عن العلاقة بين القارئ والنص: وتشير إلى أن القراءة عملية واعية تستلزم قدرا كبيرا من تدخل الوعى. وهى عملية مركبة ذات مراحل ومستويات متعددة:
الإدراك
التعرف
الفهم
والتفسير
والكتاب يتناول سيموطيقا المكان والزمان والنص الموازى وهو جامع شامل يعتمد على مراجع أجنبية فرنسية وإنجليزية وعربية وهو فى رأيى أفضل ما كتب عن السيموطيقا وعرف بها. ولا ننسى إشرافها مع نصر أبو زيد على دراسات فى كتاب »مدخل إلى السيموطيقا ـ أنظمة العلاقات فى الأدب واللغة والثقافة (دار إلياس العصرية عام 1986).
ب - الرواية:
فى كتابها» بناء الرواية « مكتبة الأسرة ) إبداع المرأة ( 2004 تقدم دراسة مقارنة فى ثلاثية نجيب محفوظ وتهديه إلى سهير القلماوى، والمقارنة أو الأدب المقارن كان عند صدور هذا الكتاب( ( 1978 فرعا جديدا من فروع الدراسات الأدبية، اختلفت الدراسات والمدارس حوله وعلى مناهج دراسته. لذا تعرض سيزا فى بداية كتابها المدارس المختلفة والنظريات لدراسة هذا الأدب، والكتاب يتضمن الزمكانية فى الرواية: بناء الزمان الروائى: أهميته وأنواعه من زمن طبيعى ونفسى وتجسيده فى النص وبناء المكان الروائى: أهميته ووصفه وذلك تطبيقا على ثلاثية نجيب محفوظ. وتؤكد سيزا فى نهاية الكتاب أن إستخدام المقارنات ساعدها على فهم العمل وتحليله مؤكدة على أن الأدب لا يخضع لمعايير ثابتة ومطلقة ومن هنا تأتى أهمية الدراسات المقارنة.
ج - نقد الشعر:
فى العدد الحادى عشر 1991 لمجلة «ألف» وتحت عنوان التجريب الشعرى فى مصر منذ السبعينات حيث تتناول قصيدة «آية جيم» لحسن طلب (وكانت فى ديوان تحت الطبع فى الهيئة المصرية العامة للكتاب) تؤكد أنها أعجبتها: » لأنها تتحدى المعطيات المتعارف عليها حول الشعر « فتقول: » الشعر تعبير صادق عما يختلج فى نفس الشاعر، الشعر تشكيل جمالى للواقع، الشعر صياغة لغوية لتناقضات الواقع، إن هذه القصيدة تعيد طرح ماهية الشعر وماهية اللغة نفسها وأظن أنها لا تجيب على الأسئلة بقدر ما تطرحها ». كما تؤكد أنها تعتمد على المفارقة: » والمفارقة فى رأيى هى روح العصر وقلما قابلت مثل هذه المفارقة فى نثر أو شعر. والمفارقة تهدم وتبنى، تهدم القديم، تشحذ العقل والحس، تشتت المبالغة والمغالاة، تعرى الأشياء والنفوس، تعود إلى أصل الأشياء، تطرح الأسئلة الأولى»، وتضيف سيزا قائلة عن هذه القصيدة: » أن بها شيئاً خفياً وهو شرط من شروط الحداثة وهو: التأمل فى ماهية اللغة فى مستوياتها المختلفة من علاقة الصوت بالدلالة وعلاقة العلامة بالشيء الذى تشير إليه، ماهية القصيدة بوصفها شبكة من العلاقات تربط بين العلاقات المختلفة وفى النهاية العلاقة بين الشاعر والقصيدة».
ولقد اخترنا هذه النماذج من أعمال سيزا قاسم للدلالة على اطلاعها المستمر على كل ماهو جديد: السيموطيقا والأدب المقارن والشعر التجريبى (الذى بدأه عفيفى مطر) فى بدايتهم لتكون سباقة فى الدراسة والبحث والنقد.
ونلاحظ فى الأعمال التى اخترناها نماذج لأعمال سيزا النقدية فى السيموطيقا والرواية والشعر أن هناك خيطا يجمعها وهوالتأمل حول ماهية اللغة وطبيعتها حيث تقول عن هذا التأمل أنه: «هم من هموم الفكر سواء كان ذلك فى الشرق أو فى الغرب، غير أن الفكر الحداثى أدخل هذا التأمل فى نسيج الإبداع الفنى نفسه وأصبح هذا التأمل عنصرا من عناصر النص الفنى البنائية سواء كان هذا النص نصا تشكيليا أو لغويا وهذه الخاصية تميز الفن الحديث».
رحم الله سيزا قاسم الأستاذة والناقدة والباحثة وقبل كل ذلك الإنسانة الودودة المبتسمة والمرحبة دائما.
وأخيرا أرجو أن يرى النور الكتاب الذى اهتمت به وكرست له من وقتها وجهدها مع الزميل طارق النعمان ومع مجموعة من الزميلات ليكون آخر أعمالها وذكرى تذكرنا دائما بها.
غراء مهنا.. الأستاذة والناقدة والباحثة ..والإنسانة الودودة