يوميات الأخبار

التمسك بالوطن ضرورة دينية

عرفت المجتمعات البشرية ، الأوطان، حتي قبل أن تكون هناك حدود بالشكل المتعارف عليه الآن، وارتبط »الوطن»‬ - الأرض - في المفهوم الشعبي بـ »‬العرض»، الذي لايقبل أبناؤه المساس به، أو التفريط فيه، وإن كلفهم الحفاظ عليه حياتهم.. نشأوا وتربوا منذ نعومة أظفارهم علي حب الوطن، لأنه غريزة فطرية غرسها الله في نفوس البشر، فالإنسان مهما طال به الزمن بعيدًا عن وطنه تجده فخورًا بانتمائه إليه، يأخذه الحنين إلي الوطن وذكريات الماضي، ويتمني أن يدفن في أرضه.
لكن ذلك لاينفي وجود خلط في المفاهيم لدي البعض من المتدينين يجعله يرفض فكرة الوطن، ويعتبر أن حب الوطن يتعارض مع حب الدين، علي الرغم من أنه لاتعارض بين هذا وذاك، فكلاهما مصدر واحد، بل إن حب الوطن ضرورة دينية.. فالنبي صلي الله عليه وسلم عندما أرغم علي الهجرة من مكة إلي المدينة والدموع تنساب من عينه، وقال كلمات تنبع حبًا وتقطر حزنًا علي فراقها» :والله إنك لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت أبدًا».
مفاهيم خاطئة
هؤلاء الذين يرفضون فكرة »‬الوطن» أسسوا معتقدهم الخاطئ علي أن الوطن لايعدو من وجهة نظرهم أن يكون »‬حفنة تراب»، ويعتبرونه »‬فكرة مضادة للأمة»، وأن الأوطان هي »‬عبارة عن حدود صنعها الاستعمار»، ولم يرد في القرآن والسنة كلام عن الوطن، ويزعمون أن عبارات الحب التي قالها النبي عن مكة بلده الذي ولد فيه لا يمثل قاعدة عامة، وأن الأمر خاص بمكة فقط.
تجدهم يفسرون قوله تعالي: »‬قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّي يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».. علي أن المقصود بالمساكن هنا الوطن.. وأن الله نهانا عن حب الوطن بنص هذه الآية. ويعتبرون الوطن في مفهوم عصبية جاهلية» نهي عنها الإسلام.
وهؤلاء لايفهمون حقيقة معني »‬الوطن»، فالوطن ليس »‬حفنة تراب»، بل هو شعب - تاريخ - علماء - إنجازات - حماية الدين، لو لم يكن هناك وطن لما عرفنا هذا التنوع والتعدد والاختلاف الإيجابي، فلكل دولة علماؤها، لهم أفكارهم وثقافتهم المرتبطة في الأساس بوطنهم.. (مالك بن نبي (الجزائر،) الشيخ الغزالي (مصر، (الشيخ الشعراوي) مصر، (علي الطنطاوي وراتب النابلسي (الشام، كل واحد من هؤلاء العلماء أفاد الإسلام من زاوية، ولو لم يكن هناك وطن لما ظهر هذا التنوع.
الشافعي عندما انتقل من العراق إلي مصر راعي ثقافة هذا الوطن الذي انتقل إليه، وأسس فيه مدرسة فقهية مختلفة عن تلك التي أسسها في العراق، الإمام »‬أبوحنيفة» أسس في العراق مدرسة أثرت الإسلام، غير مدرسة الإمام »‬مالك» بالمدينة، وهذا يؤكد أن الوطن ليس »‬حفنة تراب» كما يعتقد البعض.
هناك من يؤسس رفضه لفكرة الوطن إلي كون قضية الأمة أعلي من الوطن، وهذا قول حق يستخدم استخدامًا خاطئًا، لأن فكرة الأمة هي جزء من عقيدة المسلم، لكنها تستخدم لتمرير ثقافة قبول تفتيت الوطن أو عدم التمسك به لتقديم مصلحة الأمة علي مصلحة الوطن، وهذه فكرة خطيرة يستفيد منها أعداء الوطن وأعداء الإسلام في آن واحد نتيجة الفهم السطحي الساذج. فالأمة والوطن عبارة عن دوائر متداخلة وليست متقاطعة، كلما سعيت لمصلحة الوطن فأنا بالضرورة فكريًا وهندسيًا أسعي لمصلحة الأمة.
أما من يقولون بأن الأوطان وضع حدودها الاستعمار، فإنهم لايفرقون بين الوطن والحدود، إذ إن الأولي أقدم من كل الحدود.. مصر - العراق - الجزيرة - الشام- اليمن - المغرب.. هذه أوطان قديمة قدم التاريخ، وليس معني أن الاستعمار هو الذي وضع الحدود، أن أرفض فكرة الوطن تحت هذه الذريعة، فالعدوان علي الحدود القائمة حرام حتي لو وضعها الاستعمار، لأنها في النهاية في جوهرها. هذه هي مصر.. العراق.. السودان.. اليمن.
الوطن في القرآن والسنة
كما أن هناك من يتذرع في رفضه لفكرة الوطن بأنه لم يرد مفهوم الوطن في القرآن والسنة.. وهذا غير صحيح.. ففي القرآن »‬وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا».. »‬الفخر الرازي» في تفسيره جعل فراق الوطن معادلاً لقتل النفس، أما باقي المفسرين فقالوا إنه أعلي قيمة حب الوطن وجعله في مقام حب النفس.
كان رسول الله إذا رجع من سفر فأبصر منازل المدينة حرك إليها دابته من حبها.. يقول »‬ابن حجر» إن هذا دليل علي مشروعية حب الوطن والحنين إليه.
القرافي المالكي يقول: »‬ومن مقاصد الحج تهذيب النفوس بمشقة فراق الأوطان»، يعني إنه منذ لحظة الخروج من البيت مشتاق للعودة حتي لو في مكة.
ويقول مفكرو الإسلام إنه »‬إذا اردت أن تعرف أصل الرجل ومتانة خلقه ووفائه فانظر في حنينه إلي وطنه».. سيد الزهاد.. إبراهيم بن أدهم يقول: »‬ماقاسيت فيما تركت شيئًا هو أشد علي من فراق الوطن».
في فتح مكة، أراد النبي صلي الله عليه وسلم دخول مكة بسلام دون دماء.. لكن حامل راية الأنصار سعد بن عبادة كان شديد الحماس فصاح في مدخل مكة: اليوم يوم الملحمة.. اليوم يذل الله قريشًا. فغضب النبي وقال لا اليوم يوم المرحمة.. اليوم يعز الله قريشًا.. ثم عزل سعد بن عبادة وعين بدلاً منه قيس بن سعد بن عبادة.. إنه حسم القائد دون أن يكسر قلب سعد بن عبادة.. فقد عين ابنه بدلاً منه.. أليست هذه لوحه نبوية أخلاقية جميلة ومبدعه من الرسول.
»‬استوصوا بمصر خيرًا»
النبي يقول: »‬من قاتل دون أرضه فهو في سبيل الله»، لو لم يكن للأرض قيمة لما جعل من يقتل دفاعًا عنها شهيدًا، ومن يقولون إن الوطن عصبية جاهلية استنادًا إلي قول النبي »‬دعوها فإنها منتنة».. »‬أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم»، يتجاهلون المناسبة التي قيل فيها الحديث، وهو أنه عندما تنازع الأنصار والمهاجرون والأوس والخزرج، وقام كل منهم إلي سلاحه، نهاهم عن الصراع من أجل العرق، وليس رفضًا لحبهم وطنهم، لكنه نهي عن أن يتحول حب الوطن إلي صراع وعصبية.
ثم كيف نقول ذلك والنبي هو الذي دعا لكل بلد ولأهل كل وطن... فقال عن مصر: »‬ستفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرًا، فإن لكم منهم صهرًا وذمة»، و»إذا دخلتم مصر فاتخذوا منها جنداً فهم خير أجناد الأرض»..
والحفاظ علي الوطن هو حفاظ علي الدين ذاته، والخروج عن فكرة الوطن هو خروج عن فكرة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فلن نستطيع عيش الشريعة إلا من خلال الأوطان، فالدين يحتاج إلي جملة من الأشياء: الأمان - المال، وكل هذا يحتاج إلي وطن بعيدًا عن الصراع، ولايجوز لأحد أن يشمت في وطنه إذا أصابه مكروه، لأنها من الشماتة في الدين.
والوطن لايحسب عمره بالأزمات، لكن يحسب عمره بالعافية، وإذا كانت مصر في حالة حرب، فإنها »‬في رباط إلي يوم الدين»، وهذا ليس رباطًا عسكريًا فقط، لكن رباط مجتمعي.
نريد غرس حب الوطن في أولادنا، حتي لايكبروا وهم لايدركون قيمة ومعني الوطن.. فنضيع أرضنا ويأخذها عدونا.. وعندها نكون ارتكبنا إثمًا عظيمًا.. علموا أولادكم أن بر الوطن مثل بر الوالدين، وأنه مثلما لايوجد شخص يكره أمه، فلايوجد شخص يكره وطنه.. اللهم احفظ بلادنا.