ضوء أحمر

الأخلاق المنهارة : اختفاء القدوة والإرادة

عودة مرة أخري إلي قضية منظومة الأخلاق والتي يختزلها البعض في الجانب الديني الوعظي، وذلك علي خلفية الندوتين المتميزتين اللتين أدارتهما الناقدة الواعية د. ناهد عبد الحميد في صالون طاز، والملتقي الثقافي بالهناجر، التابعين لوزارة الثقافة خلال شهر رمضان المعظم، وقد أشرت لهما في مقالي السابق.

فوزارة الثقافة رأت من خلال هاتين الندوتين أن قضية الأخلاق هي قضية دينية، ولولا اشارات مديرة الندوة بين حين وآخر لأبعادها الأخري، لفهمت أن الوزارة تفسر القضية في جانبها الديني وليس في حقيقتها المجتمعية. ولكن بالنظر إلي ضيوف اللقاءين من الشيوخ الأفاضل وأساتذة بالأزهر ودعاة، تأكدت النظرة الأحادية لقضية الأخلاق عند وزارة الثقافة ، إلا أن مناسبة عقد اللقاءين في شهر رمضان الروحاني قد تكون مبررا مؤقتا لقبول ما حدث، وكثيرا مانبهت مديرة الصالون والملتقي بمراعاة ذلك عند اختيار الضيوف لأن ذلك يجسد الرؤية الخلفية في تناول الموضوع تعبيرا عن وزارة الثقافة التي في الأصل لها دور حاسم في تكوين منظومة الوعي والأخلاق.....إلخ.والذي جعلني أعود إلي الموضوع مرة أخري عدة وقائع مستجدة، كشفت أن القضية ليست في وزارة الثقافة ودورها المحوري الذي ناله التدمير الممنهج مع دور وزراتي التعليم ، ووزارة الإعلام، ولكنها في الضمير الجمعي في المجتمع والدولة في مصر، بكل أسف. علي سبيل المثال، فإن نموذج «القدوة» هو الفيصل، لا نموذج الوعظ والإرشاد،فالفعل أقوي من الكلام، وقد يأتي الكلام لأداء وظيفة الشرح لفعل حقيقي يستطيع إنجاز التغيير المجتمعي،وضبط المسارات...إلخ.

فعندما يأتي الكلام من شخص ملتزم بما يفعله، يكون للكلام سحر وتأثير بالغ، علي عكس مايحدث من شخص يتحدث بينما أفعاله في الطريق العكسي ، فإن تأثيره منعدم، بل لا يستمع له أحد، وقد ينصرف الحضور. وأغلب الظن أن المعجبين والمهووسين ببعض الدعاة أوببعض الشخصيات العامة، ما إن يكتشفون وقائع متناقضة في سلوك هؤلاء مع ما يدعوون إليه في خطابهم المعلن،فإن الانصراف عنهم بل وتشويههم وإظهار هذا التناقض، تكون النتيجة الحاسمة.انظروا مثلا لزعيم كجمال عبد الناصر وهو المرجعية لسلوك الزعماء في الذهد والوطنية،لم يكتشف حتي بعد مماته - بمناسبة ذكري 23 يوليو المجيدة - ورغم حملات التشويه من القوي المضادة وبتوجيه من الرئيس السادات بنفسه وعبر مايقال عنهم أنهم رموز للفكر والثقافة، أنه كان شخصا متناقضا في سلوكه عن أفكاره، فعاشفي ضمير الشعب قدوة في منظومة الأخلاق الحقيقية ومرجعية للقياس للشخصية الملتزمة.فالالتزام في الفكر والممارسة خير وسيلة للإقناع والتأثير بلا جدال.فعندما أكون أستاذا في الجامعة أحمل أفكارا أغرسها في طلابي، ثم يجدون سلوكا مناقضا أو أفكارا متعارضة مع ماأقوله لهم، تكون النتيجة انهيار صورة هذا الأستاذ. وكثيرا ما وضعت دائما ونصب عينيّ مسألة الالتزام لكي أكون قدوة لأبنائي الطلاب فكرا وممارسة، وهو السر الذي يربطني أشد الارتباط بطلابي، علي الرغم من تنوع وظائفي كأستاذ، ورجل سياسة، ورجل دولة ، ورجل مجتمع.

وهي وظائف تفرض عليك بعضا من المرونة، إلا أنني كنت مصرا علي الالتزام لأنال الاحترام رغم كل الصعوبات التي واجهتني والأذي الذي لحق بي من كثيرين، لكنها القدوة وإرادة الالتزام.

فهل يتصور أحد أنني كنت استمع في الندوتين عن الأخلاق المشار إليهما ، وأعرف جيدا أن من بين الجالسين علي المنصة من هم غير ملتزمين بما يقولون مع ما يفعلونه، كان قلبي يتمزق، وتحملت وتحاملت حتي انتهت الندوتان علي خير. أرأيتم كيف أن قضية الأخلاق حساسة، ولها جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية (مجتمعية) وليست مجرد وعظ وإرشاد ؟! ان من تابع ما حدث من المدرب حسام حسن واعتدائه الصرخ أمام الجماهير والشاشات علي مصور صحفي تابع لوزارة الداخلية، ثم ظهر الحسم، ثم يتراجع أمام جماهير الكرة، فتتراجع الدولة لتسوية الموضوع بصلح ظاهري يدمر منظومة الأخلاق، بأن هناك من هو أقوي من القانون والدولة ؟!

كذلك واقعة الست النائبة في قسم شرطة مدينة نصر، واعتدائها علي رجال الأمن ، ثم تراجع الدولة واتصال من وزير الداخلية بها، هو تراجع مدمر لمنظومة الأخلاق.علي حين تصر الدولة علي التنكيل بالصحفيين وتقديم النقيب وزملائه لمحاكمة، والتنكيل بالمتظاهرين من أجل جزيرتي صنافير وتيران المصريتين، وتلفيق التهم، تكون الدولة قد فقدت وظيفتها الأخلاقية في هذه الوقائع ، إنها دعوة للمراجعة، لتأصيل القدوة كنموذج بإرادة قوية، لإنقاذ مصر وشعبها من الانهيار الأخلاقي الذي وصلنا إليه بكل أسف.