يوميات الأخبار

الفاعلية الرحيمة.. بديلاً للمظلومية

هناك من أدمنوا العيش بفكرة المظلومية عبر تصوير أنفسهم دومًا علي أنهم ضحايا لمخططات الآخرين، إذ تجدهم في كل وقت وحين يبحثون عنها، كشماعة يلقون عليها بكل أخطائهم، حتي يبعدوا عن أنفسهم شبهة التقصير، هروبًا من المسئولية، من خلال التذرع بالظروف والأعداء والظالمين والحاقدين والفاسدين، كل هذا من أجل إراحة ضميرهم.

وهناك كثير من المتدينين يرون أن الإسلام مضطهد من العالم، وأن الأعداء والظالمين هم سبب كل مصائب الأمة، لكننا ضد تصوير كل أزمات المسلمين علي أنها ناجمة عن مؤامرات خارجية عليهم، دون البحث عن أسباب أخري، حتي لا تصبح المظلومية بمثابة حقنة مخدرة نلجأ إليها للهروب من تحمل المسئولية، أو حقنة كراهية وعنف وغضب.

فكر المظلومية

الحقيقة أن الكثير من الأفكار في القرن الماضي عاشت تروج لفكرة المظلومية علي الإسلام من الغرب، وأن هذا هو السبب الأساسي في كل ما يعانيه المسلمون من أزمات ومصائب وكوارث، حتي صارت عقول الشباب المرتبط بهذه الأفكار يري العالم من خلال هذه النظارة السوداء القاتمة.

ونحن وإن كنا لا ننكر في الأصل وجود الصراع، لكنه أمر طبيعي في الحياة، فمنذ خلق الله آدم وكل قبيلة أو أمة لها مصالح تتعارض مع مصالح قبيلة أو أمة أخري تدبر لها المكائد، لكن الحل يكمن في التخطيط لبناء الذات لتقويتها، وهذا هو الاختيار الرباني القرآني «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا»، والصبر والتقوي هنا ليسا بالمفهوم المحدود لهما في أذهاننا، لكنهما فاعلة إيجابية منتجة.

والقرآن عالج تلك المشكلة بالدعوة إلي بناء النفس، كأفضل طريق للانتصار علي الأعداء، فبعد انكسار المسلمين في غزوة أحد، فكر الصحابة بنفس الطريقة، وكان الرد القرآني الحاسم عليهم بآية نزلت تعلمهم تحرير العقل من إلقاء الأخطاء علي شماعة الآخرين»أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّي هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

«أحد جبل يحبنا ونحبه»، قالها النبي بعد غزوة أحد، حتي لا يتشاءم الصحابة مما حدث لهم عند جبل أحد، فلا يتعودوا أن يلقوا بالأخطاء علي شماعة الآخرين، ليحرر العقل من إلقاء التبعة علي الآخر حتي لو كان جمادًا أو جبلاً، وعندها سيكونون أقدر علي التركيز علي دائرة تأثيرهم.

فما هو البديل ؟

الإسلام لديه حل بديل اسمه «الفاعلية الرحيمة»، وهي أن تركز علي نفسك، وتحول الغل والكراهية والعنف إلي فاعلية رحيمة: الإيجابية مع الرحمة والتسامح، وهي التي تتجسد بوضوح في سورة يوسف.

حقد إخوة يوسف عليه جعلهم يخططون لقتله «اقْتُلُوا يُوسُفَ»، وكان القرار برميه في البئر وهو غلام صغير لم يتجاوز 10سنوات، «وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ» في قاع الجب، عثرت عليه قافلة «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ»، وأصبح عبدًا في قصر عزيز مصر، تعرض لفتنة امرأة العزيز «وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ» ثم نساء البلد كلها، سجن ظلمًا في تهمة شرف «وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ»، « قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ»، «ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْد مَا رَأَوُا الْآيَات لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّي حِين»، «فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ» (9سنوات).

معاناة وظلم منذ الصغر، ومع ذلك لم يرد في السورة أي كلمة يشكو فيه يوسف من الظلم الواقع عليه، لأنه اختار بديلاً آخر هو الفاعلية الرحيمة، فتعلم الاقتصاد وهو في بيت العزيز، حيث كان لا يزال عبدًا، حتي أصبح وزيرًا لمالية مصر، «اجْعَلْنِي عَلَي خَزَائِنِ الْأَرْضِ»، كان إيجابيًا فعالاً حتي في السجن « يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»، «إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».

«وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَي»، أينما وجد الإنسان الفعال وجدت الفرصة، فقد كان أمام يوسف 4اختيارات، أن يقول لن أفسر الرؤيا حتي تخرجوني من السجن، أو يقول تفسيرًا خاطئًا للرؤيا ليقع من ظلمه في الشر، أو يقول: وما دخلي أنا بهذا؟، أو لن أفسر ولا أريد الخروج من السجن، لكنه لم يفعل ذلك.. فسر الرؤيا لهم بدون أي شئ ولا بتقديم أي طلبات.. إنها الفاعلية الرحيمة.

بعدها بدأ يصلح إخوته قبل أن يسامحهم «قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ».. 4مرات يذهبون ويعودون من مصر لفلسطين «قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ»، يوسف لم يتغير قلبه ولم يبكتهم أو يلمهم «قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ»، «قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَي الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا»، إنها تجربة القرآن عن الفاعلية الرحيمة. لذلك ختام السورة: «حَتَّي إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ».. «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».. الفاعلين الرحماء.

قصة يوسف شديدة الشبه بقصة النبي صلي الله عليه وسلم، وكأن طريق أمة محمد هي نفس طريقة يوسف: الفاعلية الرحيمة، نزلت سورة يوسف والنبي في مكة قبل الهجرة.. في ذروة الظلم والاضطهاد بعد الهجرة إلي الطائف، لترسم خريطة طريق للنبي بالضبط مثل يوسف.

كأن الله يقول له: لو كنت فقدت أهلك، فيوسف فقد كل أهله لا أب لا أم لا سند.. لم يحل قلبه الغل.. لو كنت تشكو الهم: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي».. يوسف «شروه بثمن بخس».. يوسف لم ينجح في بلده ولكن في بيئة خارجية «مصر»، وكأن الله يقول للنبي مكة ليست الساحة الوحيدة للنجاح، ففكر في بيئة خارجية.. يوسف انتقل من بيئة صحراوية ورعي إلي بيئة زراعية مصر.. كذلك النبي.. هاجر من مكة للمدينة.

يوسف عندما تفاعل برحمة عاد إليه أهله معترفين بقيمته وسامحهم النبي كذلك «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، يوسف عفا.. والنبي عفا بلا نفوس تغل وتكره.. المشهد النهائي ليوسف «عفو».. المشهد النهائي للنبي «عفو».. بعد جهاد وفاعليه رهيبة.

في النهاية:

لابد أن نؤمن بفكرة الفاعلية الرحيمة باعتبارها الحل الأمثل لمواجهة فكرة أن العالم ضد الإسلام.. وأن الإسلام ضد العالم.. مثلما هي كذلك الحل لمواجهة شكوي آلاف الشباب من ظروف الحياة وظلم المجتمع بدلاً من الاستغراق في الحديث عن المظلومية والاضطهاد دون أن تبحث عن حلول أو مخرج.