يوميات الأخبار

الإيمان بالقضاء والقدر.. فهم جديد

الإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة كما قال النبي صلي الله عليه وسلم‏:‏ «الإيمان‏:‏ أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه‏»‏، لكن ذلك لا يعني الاستسلام والعجز والسلبية، والاستكانة والقبول بالواقع دون أن نبذل أي جهد لمحاولة تغييره إلي الأفضل، بل هو طاقة إيجابية تمنحنا القدرة علي التحرك في مساحات أوسع.

القدر مشروب للطاقة وليس حقنة مخدرة

فالقدر فكرة إيجابية دافعة وفعالة للحركة وليس مخدرًا، بل هو مشروب طاقة يحفزك للنجاح، يضيق عليك القدر ليحفزك لتجتهد وتفكر وتعمل، ومن ثم تنتقل إلي قدر جديد أوسع لك، يرفع سقف أحلامك.

فكل قدر صعب يمر بك به مساحات واسعة ومسافات، واختيارات فتحها الله لك للخروج، وعليك التفكير والجهد والبذل لتنتقل إلي قدر جديد أجمل وأفضل لك، وليس معني أن الله خلق الناس درجات وفضّل بعضهم علي بعض، أن يرضي الفقير بفقره، ويقول: هكذا أرادني الله فقيرًا لحكمة أرادها، فالأمر وإن كان ظاهره الرضا، إلا أن باطنه الاستسلام للأمر الواقع، وعدم الأخذ بأسباب التغيير.

الله أودع فينا العقل وأتاح أمامنا خيارات مختلفة، وكل آية في القرآن، وكل فعل أمر فيه يعني أنه سبحانه يكلفنا بأمر ما، ومادام يكلفنا، وهو العدل الحق الحكم، فإنه لايمكن إلا أن يترك لنا الخيار في الفعل، بل إن نزول الشرع، والكتب السماوية، سيكون بلا معني لو كنا مقادين إلي أفعالنا، كما يقاد الرجل الآلي عبر البرنامج المعد مسبقًا بلا خيار.

وعندما قال تعالي: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»، فإن مقصد الآية واضح، وهو أن كل ما نسعي إليه، ونكسبه بعملنا وفعلنا واختيارنا وإرادتنا، وعندما قال: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلي عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»، فإن هذه دعوة إلي العمل والحركة والنشاط، فالله أراد الإنسان كائنًا متحركًا يعمل ويجتهد، حتي يحسن من أحواله.

القدر محصلة اختياراتك

القدر الجديد هو محصلة اختياراتك بين الاختيارات المختلفة، وهذا يتضح في سورة طه، في قصة موسي عليه السلام عندما كلفه الله بالرسالة، فقال له: «إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَي مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَي أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَي قَدَرٍ يَا مُوسَي».

فقد كان أمام موسي اختيارات مختلفة تفاعل معها بشكل إيجابي أو سلبي، أدي ذلك إلي انتقاله من اختيار إلي اختيار، حتي جاءت لحظة تكليفه بالرسالة، وكل ذلك من قدر الله، هذه الآيات تحرك فينا طاقات هائلة للعمل لتغيير الواقع نحو الأفضل، فالله لم يجبرنا علي أفعالنا، وإنما كتابته لأفعالنا كتابة علم وليست كتابة إجبار.

سأل رجل النبي صلي الله عليه وسلم عن أدوية يتداوون بها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال صلي الله عليه وسلم «هي من قدر الله».. رجع عمر بن الخطاب وأصحابه من الشام ولم يكمل رحلته هناك خشية الوباء الذي انتشر بالشام فقيل له: أفرارًا من قدر الله يا أمير المؤمنين؟! قال: «نعم، نفر من قدر الله إلي قدر الله»، ودفع قدر الله بقدر الله لا يتم إلا بالحركة والعمل وهذا هو معني «إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم».. وبذلك يكون العمل هو جوهر إيمانك بالقدر.

النبي يقول: «المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير، احرص علي ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان».

لو تدبرت معني الحديث ووقفت عند معانيه، فإنك بذلك تدمر الفهم الخاطئ للقدر، فالقوة بمفهومها الشامل «البدن ـ المال ـ السلاح ـ العلم... إلخ، لكن المعني الجديد هو القوي الذي يجيد التحرك في مساحات القدر، والدليل: احرص علي ما ينفعك، استعن بالله ولا تعجز، لا تيأس إن اعترضك قدر، اطرق بابًا جديدًا، فالمجال واسع، والاختيارات متعددة.

سيدنا يوسف نموذجًا

قصة يوسف عليه السلام، أقوي مثال علي عملية التفاعل مع القدر بوصفه دافعًا للطاقة، فقد كان قدره أن يلقي في البئر العميقة ويباع كعبد لدي عزيز مصر «وزير المالية»، فتعامل مع قدره بإيجابية.. تعلم علم الاقتصاد لوجوده في بيت العزيز، لم يستسلم للعبودية، لكن طور نفسه بالعلم في انتظار فرصة لم تأته إلا بعد سنين طويلة.

ثم قاده القدر مجددًا لدخول السجن بضع سنين، فتعامل بإيجابية، لم ينغلق علي نفسه، لم يشك القدر لكنه تحول إلي مصلح يأخذ بيد رفقائه في السجن حتي قالوا عنه «إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» حتي خرج من السجن معززًا مكرمًا.

عندما ضربت مصر والمنطقة العربية مجاعة شديدة، تعامل يوسف مع القدر للمرة الثالثة بإيجابية وتحمل المسئولية الثقيلة، وقال للملك: «اجْعَلْنِي عَلَي خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»، فلما فهم التعامل مع قدر الله بهذه الفاعلية صار عزيز مصر وأنقذ مصر من المجاعة وعاد إلي أبيه وأصلح أخوته.

كلمة أخيرة:

من الضروري تحرير المفاهيم الإسلامية من الفهم التخديري السلبي إلي مفاهيم فعالة تحرك الحياة نحو العمل والإنتاج، فالدين ليس مخدر وأفيون الشعوب بل علي العكس هو المحرك لفاعلية الشعوب.