أن تواجه نفسك بأخطائها.. من أجل إصلاحها.. وتطويرها للأفضل.. وتحفيزها.. ودفعها للأمام.. فهذا هو المقصود بمفهوم «نقد الذات»، والإسلام يعلمنا ذلك، من خلال «الاستغفار والتوبة»، حتي يقوم الإنسان بالمراجعة الشاملة والدورية لأخطائه في الحياة، وهناك فرق بين «نقد الذات»، و»جلد الذات»، فالأول يقوم علي مواجهة النفس بأخطائها، ومن ثم تدارك تلك الأخطاء وإصلاح الذات، أما الثاني فهو الاعتراف بالأخطاء دون إصلاح.
النقد.. مراجعة لا مكابرة
لكن هناك من الناس، وبخاصة المتدينين من يرفضون توجيه أي كلمة نقد لهم، لأنهم يخلطون بين ذواتهم والإسلام، فيعتبرون أي نقد لهم هو نقد للإسلام ذاته، علي الرغم من أن النبي صلي الله عليه وسلم يقول: «الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وكان عمر بن الخطاب يقول: «رحم الله امرأ أهدي إلي عيوبي». وقد نزلت سورة التوبة في بعض الصحابة الذين فضلوا مصلحتهم الشخصية علي الإسلام، لكن حصر «التوبة»، في الإقلاع عن المعاصي والذنوب، هو فهم ضيق، لأنها أوسع من ذلك بكثير فهي حالة نقد ذاتي.. مراجعة للنفس.. رقابة إدارية.
وما لم يدرك المرء نقاط قوته، لن يجيد توظيفها، وما لم يدرك نقاط ضعفه فلن يمكنه علاجها أو تفادي ضررها، فنقطة الانطلاق في سُبل النجاح والإنجاز تبدأ من معرفة الإنسان بنفسه، ونظرة دقيقة عميقة إلي ذاته تمنحه الإلمام بإيجابياته ومزاياه دون مبالغة تفضي للغرور، وتُعرّفه عيوبه ونقائصه بعيدًا عن جلد الذات الذي يَقعد بصاحبه عن العمل.
وكي لا يحيد المرء عن المسار الصحيح، ينبغي أن يطرح للمراجعة والمحاكمة والتدقيق والتقييم كل ما لديه من معتقدات ومسلّمات وموروثات اجتماعية وأفكار ورؤي ومواقف وآراء وعلاقات وأخلاق، فما تأكد من صحته أبقي عليه، وما ثبت له خطؤه نحّاه جانبًا واستبدله بما رسخ في يقينه أنه الحق.
وبكل من ميزان القوة والضعف، وميزان الصواب والخطأ، يتكون لدينا ما يُعرف بـ «نقد الذات»، والذات هنا يمكن أن تكون فردًا أو مجتمعًا أو أمة؛ وهو أصل أصيل للبدايات الصحيحة التي تؤدي لنجاحات متتالية للأفراد، وارتقاء ونهوض للأمم، فبه نعالج الأخطاء ونصححها أولا بأول، ونعي حقيقة ذواتنا بعيوبها وميزاتها، فنتفادي الوقوع في أصناف الفشل والإحباط والغرور، والوصول إلي مشاكل مُركّبة ومعقدة يصعب حلها.
هناك طرق ثلاث لنقد الذات:
الشجاعة
ومن ذلك ما فعله كعب بن مالك الذي كان من الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك فتاب الله عليه بصدقه، وقوله الحق لرسول الله، خلافًا للرجال الذين لم يشهدوا غزوة تبوك، وتعذروا بأعذار كاذبة.
فقد أصر كعب علي أن يقول الحق لرسول الله مهما كانت النتائج؛ لأنه قعد عن الجهاد بغير عذر، وكان الرسول نهي الصحابة عن محادثة هؤلاء الثلاثة (والآخران هما: مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي رضي الله عنهما)، وظل كعب وصاحباه رضي الله عنهم علي هذه الحال من الضيق والغم طوال خمسين ليلة، حتي ظنوا أن الأرض قد ضاقت عليهم، لكن الله العليم الرحيم أنزل علي نبيه أنه قد تاب عليهم.. «وَعَلَي الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّي إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
إيمانية - روحية
من خلال التوبة والاستغفار.. احرص علي الاستغفار بشكل يومي كتدريب ديني لإصلاح نفسك.. فالاستغفار معناه كأنك تقول: أنا آسف لن أفعل هذا ثانية.. الرسول يقول: «واللهِ إني لأستغفرُ الله وأتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرَّة»، فهل كان يتوب عن معصية يرتكبها.. أو عن كبيرة يقع فيها؟ حاشاه. لكنه كان نقدًا ذاتيًا.. مراجعة.. محاسبة لعمل اليوم.
قبول النصيحة
الطريقة الثالثة لنقد الذات، هي قبول النصيحة خاصة من الأهل.. أبيك.. أمك.. فهذا «صموئيل كولجيت».. كان عمره 6 سنوات عندما غادر منزله ليبحث عن عمل في نيويورك، حمل في يديه كيسا صغيرا فيه كل أمتعته، وفي طريقه للسفر صادف رجلا عجوزا قال للطفل بعد أن عرف غايته: «تمسك بحلمك يا بني.. عندئذ فقط ستحقق النجاح».
التفت الطفل إلي العجوز، وقال له: «أنا لا أتقن عملاً إلا صناعة الصابون والشمع، حيث تعلمتها في منزل أسرتي»، أجاب الشيخ: «سيكون في القريب شخصًا مهمًا ومعروفًا في صناعة الصابون في نيويورك، قد يكون هذا الشخص هو أنت، وقد يكون غيرك، لكن أتمني أن يكون هذا الشخص أنت فتمسك بحلمك، وأنا أؤكد أنك ستصبح هذا الشخص الناجح صاحب الثروة».
وصل الصبي إلي نيويورك، واستطاع أن يلتحق بعمل دائم، ودائمًا كانت تتردد بداخله كلمات العجوز، واتخذ خطوات ليتقدم في طريق حلمه ويحقق النجاح الذي يريده، وبعد عدة سنوات صار شريكًا لصاحب العمل، وظل يطبق نصيحة العجوز حتي اتسع عمله وازدادت ثروته وأصبح اسمه معروفًا في كل بلاد العالم.
نقد الذات يقود للنجاح
لا تخلو قصة نجاح من «نقد الذات»، فهذا عمر بن الخطاب يحققه بشِقّيه في يوم واحد، فيترك الكفر ويدخل في الإسلام، ثم يستثمر ما له من قوة وهيبة فيطلب من رسول الله أن يجهر المسلمون بدينهم، فكانت تلك لحظة فاصلة في تاريخ الدعوة. وكذلك محمد الفاتح إذ أدرك ما له ولدولته من قدرات وإمكانيات، فمضي حتي فتح القسطنطينية.
لكن «نقد الذات» لا يعني أن تقعد عن العمل إلي أن تبلغ مرتبة الكمال، بل هو السعي لبلوغ الكمال، وهو عملية مستمرة مدي الحياة، فتعمل وتراجع وتقيّم وتصحح المسار. واعلم أنك لن تكون موضوعيا في تناولك للأمور وفي طرحك ما لم تكن موضوعيا مع ذاتك، ولن تكون موضوعيا مع ذاتك ما لم تنقدها بشفافية.
إذا ما أردت أن تتقدم هذه الأمة.. أن تتقدم البشر.. أن تقوم برسالتها.. أن تكون لها العزة والكرامة.. فاستجب لأمر الله طائعًا «وَتُوبُوا إِلَي اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، وأؤمر غيرك بذلك.. فواحد لا يكفي، بل يجب أن يتحرك الجميع ليتوب إلي الله فينصر الله بهم الأمة.