تعبر السينما بنا أزمنة كثيرة نتجاوز بها اليأس والألم وسنوات البعد عن وطن مجروح، وتلقى بشهادات تصور لنا الحنين وقيمة الترابط وهى تطرح تساؤلات : ماذا حدث ، كيف كنا ، وكيف أصبحنا، مرورا بوضع أصابع اتهام لمن غفوا، ومن غدروا ومن تجاوزوا حدود الإنسانية.
وفى الفيلم الفلسطينى الوثائقى “باى باى طبريا” أو “وداعا طبريا” الذى عرض بمهرجان مالمو للسينما العربية بدورته ال١٤، تسافر المخرجة لينا سوالم عبر الزمان والمكان لالتقاط القصص التي تناقلتها أربعة أجيال من النساء الفلسطينيات الجريئات في عائلتها، وتعيدنا الرحلة الشخصية لكل امرأة في الفيلم إلى فترة زمنية في التاريخ، وعلى الرغم من هويتهن الفلسطينية المشتتة في مناطق مختلفة، فإنهن تحكمن في مصائرهن وأثرن في العالم من حولهن، وبالاعتماد على مجموعة غنية من اللقطات الأرشيفية، وبلقطات حميمة تعود إلى منزلها وتتواصل من جديد مع نساء طبرية وفلسطين وخارجها.
مثلا تستكشف المخرجة علاقتها مع والدتها الفنانة الفلسطينية هيام عباس وهي أيضا ابنة المسرحي الجزائري زين الدين سوالم، كرسالة حب، حيث تتبع الممثلة أثناء عودتها إلى منزلها في القرية التي نشأت فيها، هيام عباس تشتهي الهروب. على الأقل، هذا ما تتذكره. بينما تبحث في كومة من الرسائل التي كتبتها إلى والديها بعد وقت قصير من وفاة والدتها، فإنها تبحث على وجه التحديد عن الرسالة التي كتبتها لتشرح لهم سبب مغادرتها المنزل، لأنها لا تستطيع تذكر ما قالته فيه تمامًا لكنها تقول “أعتقد أنني قلت لهم: أنا أختنق، لا أستطيع العيش هنا. أنا بحاجة للتنفس. “أريد أن أجد نفسي.” غادرت هيام قريتها الفلسطينية دير حنا في أوائل العشرينات من عمرها متجهة إلى أوروبا لتحقيق حلمها في التمثيل. وبعد مرور ثلاثين عامًا، يمكنك القول إن هيام حققت ذلك بالتأكيد: فهي ممثلة ذائعة الصيت ذات شهرة عالمية، عملت في وطنها وفي هوليوود، تحت إشراف مخرجين مثل ستيفن سبيلبرج ودينيس فيلنوف بالإضافة إلى إخراج أفلامها.
ولكن في حين أن هذا المسار المهني يبدو وكأنه قصة خيالية تستحق فيلمًا خاصًا بها، إلا أن لينا سوالم لا تهتم بهذه التفاصيل المحددة في فيلمها الوثائقي، فابنة هيام عباس توجه كاميرتها نحو والدتها والعديد من النساء الأخريات في عائلتها من أجيال مختلفة لتتعرف على علاقتهن بالمنفى من وطنهن، طوعًا أو غير ذلك.
لينا تستفيد بشكل ما من براعة والدتها الفنية في إعادة تمثيل المحادثات الرئيسية في حياتها، مثل عندما أخبرت والدها أنها تحب رجلاً إنجليزيًا وتريد الزواج منه، مع العلم أنه من المحتمل أنه لن يوافق.
“وداعًا طبريا” احتفال دقيق بالتاريخ الجماعي وذكريات ليس فقط لعائلة واحدة، بل لشعب غالبًا ما يكون تاريخه مبعثرًا أو حتى مُمحى. تم طرد جدة المخرجة الكبرى “أم علي” وجدتها “نعمت” من منزلهما في طبريا خلال حرب 48 ؛ وعندما تمكنوا أخيرًا من العودة، لم يبق شيء يذكرونه عن منزلهم، ولم يعد هناك أي فلسطينيين يعيشون هناك. تروي المخرجة أيضًا قصة عمتها حسنية، التي أصبحت في نفس الوقت تقريبًا لاجئة في سوريا ولم تتمكن من العودة إلى وطنها. وفي حين أن طبيعة نزوح هيام مختلفة، لا تُقحم المخرجة نفسها بشكل مفرط في فيلمها الخاص، لكن روابطها الشخصية بالقصة حاضرة بعمق دائمًا.
يبدأ الفيلم بلقطات محببة لها ولوالدتها وهما تسبحان في بحيرة طبريا، حيث تقول رواية سوالم: “عندما كنت طفلة، أخذتني أمي للسباحة في هذه البحيرة. كما لو أنها تغمرني في قصتها. مع هذه الثروة من الذكريات المنطوقة والصور ومقاطع الفيديو التي يمكننا رؤيتها، يتم استحضار الماضي بقوة إلى الحاضر ويجعل هذه الذكريات ملموسة”.
هناك الكثير من الحزن والألم منسوج في جميع نواحى الفيلم، حيث تنتقل آثار المنفى من جيل إلى آخر. وفي إشارة إلى تداعيات قرار والدتها بالرحيل، تقول لينا إنها “ولدت من هذا الرحيل. هذا الكسر”. و تعلق هيام على اعتقادها بأنها بحاجة إلى المزيد، لكنها لا تعرف كيف تنعي أمها، وكيف تنفصل عنها. إن الماضي والحاضر المشحونين لفلسطين والتآكل السريع للتاريخ الفلسطيني يخيم على طبريا أيضًا. ولكن هناك الكثير من الفرح في هذا الفيلم أيضًا. بعض اللحظات السعيدة التي تلتقطها لينا لعائلتها معًا هي من أكثر اللحظات التي لا تنسى في الفيلم، مثل هيام وثلاث من أخواتها وهم يروون طفولتهم، ويضحكون و يتذكرون أول حب لهم أو مثل التجمع في نهاية الفيلم، عندما تصطف هيام وعائلتها لالتقاط صورة، وينخرطون في الضحك أكثر فأكثر أثناء محاولتهم اتخاذ وضعية معينة، هذه اللحظات تبرز روح الدعابة والإنسانية والروابط العائلية التي لا يمكن لأي قدر من الوقت والمسافة أن يكسرها.
في الفيلم الوثائقي هيام عباس على مدى مسيرتها المهنية الممتدة لعقود من الزمن لا يمكنها الوقوف لتنظر إلى كاميرا ابنتها “لينا” لفترة طويلة. بعض هذا التحفظ موروث، وشكلته أجيال من عدم اليقين و وجع القلب؛ فقلب الفيلم يحكي قصة عن التهجير الفلسطيني والشتات من خلال حكايات من النساء في عائلة عباس، اللاتي تمسكن بقوة بأسرار ما عانين منه وعاشنه بعد نكبة عام 1948، عندما قامت إسرائيل بتهجير أكثر من 700 ألف فلسطيني من ديارهم، ومن النادر أن تُسأل هؤلاء النساء بشكل مباشر عن ذكرياتهن وعلاقاتهن وندمهن وأفراحهن. تسحب المخرجة اعترافاتهم بإحساس وإثارة مقبولة، وتضع قصصهم في سياق مقاطع فيديو شخصية من الثمانينيات والتسعينيات ولقطات أرشيفية، مما يولد نغمة مؤثرة وحزينة للفيلم الوثائقي.
أحد أكثر المشاهد المؤثرة عندما تأخذ عباس نعمات إلى طبريا، القرية التي طردت منها جدتها أم علي وزوجها وأطفالهما الثمانية عند إنشاء إسرائيل، لم يتمكنوا من تعقب الأماكن التي تتذكرها أم علي. لقد تم هدم منزل عائلتها منذ فترة طويلة، وبات هناك صعوبة التعرف على طبريا الآن – مع واجهات متاجرها النيون، والممر الذي يضج بموسيقى الرقص، ومجموعات من المتدربين في الجيش الإسرائيلي الذين يتجولون – ينعكس على وجه عباس. قد يكون الفيلم الوثائقي أقل من قيمته الحقيقية، مع امتداداته الطويلة الخالية من الحوار. لكن عوامل التشتيت التي تجذب نظر هيام بعيدًا عن عدسة ابنتها تمنح “باي باي طبريا” عمودًا فقريًا سياسيًا واضحًا يتغذى عليه الفيلم الوثائقي من خلال السيناريو الذكي والثقة الملموسة فى الصورة التى تربط المشاهد بالعالم الذي لم يعد موجودًا “طبريا “. تعتبر قصة عائلة المخرجة بمثابة عدسة يتم من خلالها سرد قصة بلد مزقته الحرب.
على الرغم من أن الحرب تلوح في الأفق باستمرار في الخلفية، إلا أن الفيلم ينتهي بنبرة هادئة. صورة هيام عباس وهي تتأمل البحيرة التي تحمل اسمها تحكي كل شيء عن الشعور بالحنين والخسارة والحب الذي يجمع هذه الصورة المربكة للعائلة.