أفندينا: الروائى .. إذ يبدو مؤرخاً

أفندينا
أفندينا

أحمد بوقرى

إن ارتياد التاريخ، استعادته وإعادة اكتشافه ومن ثمّ إعادة كتابته بنكهة سردية وملحمية يعدّ نقلة فنية فى مسيرة الروائى محسن الغمرى الروائية القصيرة إذ إننى أجدها تجربة لافتة تجدد اشتباكاتها مع المكان والزمان بطرق مختلفة وتعيد اكتشافهما فى آن داخل فضاءات التاريخ ومرجعيته..

 فى نظرى هو تحوّل كتابى نوعى من لحظة  سردية الذات ومعطيات تجاربها، إلى لحظة سردية (الموضوع والمرجع والمكان والزمان= التاريخ الوطنى). إنها استجابة للكتابة الابداعية السردية كعملية مركبة لاتستمد مكوناتها فقط من موقعها التجربى الذاتى البسيط واستيحاءات التجربة الآنية ومكبوتاتها، بل هى بمثابة تحوّل من صياغة للخلق السردى من الآنى والهامشى والشخصى فى همّه ورؤيته وتخييلاته، إلى صياغة السردية التاريخية الكبرى التى لاتنفك اشتباكاتها النسيجية وصياغاتها التكوينية ولاتزال، تفعل بمؤثراتها عميقاً فى واقعنا السياسى والثقافى المعاصر.   

لقد حضر التاريخ كله بتفاصيله ودقائقه وأحداثه فى رواية (أفندينا) فهل يمكننا التفريق بين «الوقائعى/ الوثائقى» وبين الفنى فى النص؟.. وأين نضع إصبعنا على التاريخى وأين نضعه على المتخيّل الروائى؟ وهل نجح السردى وغاب التخييل الفنى؟
أسئلة فنية ذات طبيعة تقنية طرحت نفسها وأنا أعيد قراءة النص أكثر من مرة خارجاً من دائرة المتعة والمعرفة إلى دائرة التأمل النقدى والجمالى.
فى روايته (أفندينا)، اقتنعت بالفكرة التى كانت تراودنى وأنا فى القراءة الأولى وهى أن الغمرى كتب بحثاً تاريخياً ذا شكلٍ روائى بامتياز، لا حدود فاصلة بين وثائقيته «وتخييلاته»، كبحثٍ عن الذات الوطنية المصرية وهويتها فى الحاضر والتاريخ، وعندما أدّعى بأنه بحث سردى معرفى ممتع لا أقلل بذلك من سرديته أو محتملات التخييل الضئيلة التى انطوت عليه فى روحية ملحمية متدفقة، بل أقصد أن الروائى لم يتمكّن من تحويل البحثى التنقيبى التوثيقى التفصيلى الى كتلة سردية درامية مذاب التاريخ فى نسيجها، تركيبة فنية مستعادة فى مآلاتها وصراعاتها ومكائدها، لكن فى ظنى لم تتحول فيها قضايا التاريخ وأحداثه إلى فضاء متخيّل له علاقاته الروائية مع الحاضر، بل كانت الأحداث المتلاحقة ذات حضورٍ ناصع وضاغط فى متن العمل الروائي.
بمعنى هل حقق هذا البحث الروائى المرجعى فى بعديه الفنى والتاريخى مقاربةً جديدة للحاضر وقراءة متجددة للمآلات والمصائر والمآسى التى مازال يستغرق فيها واقعنا السياسى والحضارى العربى بصور مغايرة حتى اللحظة؟..
هل لهذا البحث الروائى الاستعادى رسالة ضمنية أو درس تاريخى قلق أراد من خلالهما الروائى تمريرها لقارئه؟، أم أنه نص إخبارى معرفى منسوجٍ فى سردية من أحداث مكتفٍية بذاتها ولذاتها، مهمومة فقط باستعادة منسيات التاريخ ومكبوتاته، كتب للتسلية والمتعة والمعرفة ليس إلاّ؟، وليس ثمة وشائج له أو هموم فى المطلق مع لحظتنا التاريخية المعاصرة مثلها مثل كل الروايات التاريخية السابقة التى كتبها جورجى زيدان وعلى الجارم واللبنانى كرم ملحم كرم ومحمد سعيد العريان وآخرون وإن تميزت روايات هؤلاء بقدرٍ كبير من الصدق الفنى والصدق التاريخى، إلاّ أنها كانت فى إطار وقيود تقليدية المرحلة والخبرة الجمالية غير الحداثية والمركبة للفن الروائى وتقنياته التى وسمت أعمالهم الروائية.. ليس بالضبط هكذا، فالرواية قدمت بانوراما هائلة لعهد محمد على وفترة تشكيل الدولة المصرية المدنية.
وهذا ما سأحاول أن أقترب منه وأتلمسه فى متن هذا النص السردى الملحمى التاريخي: (أفندينا) التى غطّت نحو نصف قرن من الزمان، والذى وضع هدفاً له واضحاً منذ البدء وهو إزالة الحجب التى تراكمت على شخصية الباشا عباس حلمى حفيد محمد على حتى تحولت الى شخصية تاريخية غامضة تحتاج إلى إعادة الاكتشاف، وإعادة الاعتبار التاريخى من جديد.    
تحويل التاريخى إلى درامى والرواية كتاريخٍ موازٍ تطرح (أفندينا) من جديد العلاقة بين الادب والتاريخ كما تطرح سؤال كيفية كتابة الواقع التاريخى فى قالب الواقع الروائى ودمج الزمنيتين، وإعادة تشكيله فى واقع زمنى جديد وهى فى هذا النص تنجح فى استعادة التاريخ كمجموعة حكايا ومشاهدات وحيوات اجتماعية.. وتحولات زمنية.
ولأن الروائى كما قلت كان همه الرئيس هو إعادة اكتشاف شخصية عباس حلمى وإزاحة حجب التاريخ والوقائع المضللة عن حضوره السياسى وحكمه ومرحلته التاريخية الذائبة فقد أضطر الى اعادة كتابة تاريخ حقبة محمد على كلها، كمقدمة زمنية سابقة محتشدة بصراعات السلطة وتوترات التحولات الاجتماعية والسياسية واشتباكاتها فى الداخل والخارج مع ما جرى من إكراهات السلطة العثمانية وأطماع إنجلترا، وحصارها الفيزيقى والنفسى لخطوات وطموحات محمد على فى بناء الدولة المصرية المستقلة  وما أنجزه من أجلها أحد مداميكها الرئيسة وحضورها كما نراه الآن.
تحت مظلة هذا الصراع التاريخى والصراع الضدّى نجحت الرواية أيضا فى تسليط الضوء على العلاقة الضدية العتيدة بين المثقف/المؤرخ
وبين السلطان التى مازالت ممتدة حتى الآن فى واقعنا المعاصر، فكانت التفاتة الرواية إلى الجانب الثقافى الكتابى متمثلاً ذلك فى حضور المؤرخ عبدالرحمن الجبرتى وموقفه النقيض من شخصية محمد على وأسلوب حكمه الذى دفع به أن ينتهى نهاية مأساوية بعد مقتل ابنه خليل إنما أكدت اللبس التاريخى والإشكالية ذاتها والعداوة  المستحكمة بين السلطة والمثقف، ومؤرخى حقائقها وممارساتها وكيف أن الحقيقة التاريخية تصبح أضاليل حين يريد الحاكم لها أن تكون كذلك. وكيف أن التاريخ كله قد كتب كما يريده  السلطان لا كما يريده المؤرخ وكما يراه ويسجل لحظاته..وربما كانت مثل هذه العلاقة الملتبسة بين السلطان والمؤرخ سبباً لغياب الكثير من حقائق تلك الحقبة التاريخية المهمة من تاريخ مصر والحقب اللاحقة لها.
هل نجحت الرواية من هذه الناحية بصدق موضوعى فى إعادة كتابة التاريخ سردياً، صدق موضوعى يقابله صدق تاريخى فى قول الحقيقة التاريخية بلا مواربة أو تجميل؟.
على أننى أرى أن الرواية أثقلت كثيراً بالتدوين والتوثيق، وتتبع التفاصيل الصغيرة المهمة والمهملة وغير الضرورية لتحقيق فنية الرواية وابتعادها عن التأرخة. تلك التدوينية بدت كحشو زائد أصاب عمل (أفندينا) بشىء من الترهل والتضخم، ولا أغالى لو قلت إن الرواية اعتمدت كثيراً طريقة الباحث التاريخى فى إعادة صياغة الاحداث كما وقعت بأحداثها وليس بطريقة الراوى كما تُخيّلت، وأعيد تركيبها.
كنت أتمنى لو أنّ  الروائى كتب روايته هذه بأدبية نص عالية المستوى فنياً وجمالياً، وتخييلياً مبتعداً عن السردية التقريرية ومتخففاً من ضغوط وهواجس التدوين والتوثيق والتنقيب وناثراً فى متنها أطياف المعرفة التاريخية فى مرجعيتها الزمنية والمكانية بتقنية أسلوبية تتجاوز الكتابة الروائية التاريخية المطلقة الباردة كما أنجزت فى أعمال جورجي  زيدان وسارت على منوالها لاحقاً أعمال على الجارم ومحمد سعيد العريان ومحمد فريد أبوحديد وآخرين.
إلاّ أننى لا أنكر أن هناك قدراً محدوداً بلاشك من التخييل التاريخى فى السياق السردى لكنه مقيّد بالوقائع والاحداث والأمكنة وقوانين صيرورتها حيث حين يحدثنا الفيلسوف الفرنسى بول ريكور صاحب (القول والفعل) من أن: «للتاريخ خطاب نفعى يسعى إلى الكشف عن  القوانين  المتحكمة فى تتابع الوقائع والأحداث، وللسرد الروائى خطاب جمالى تتقدم فيه الوظيفة التعبيرية المتخيّلة على الوظيفية المرجعية» ما يجعلنى كقارئ أروم البحث عن بعض من جماليات تخييلية يفتقدها متن النص وهو مستغرق حتى أذنيه فى سرد الأحداث والوقائع جافةً فاقدةً لرواء التعبير التخييلى والجمالى.
وحسب تأملاتى النقدية لم تتفتّق المخيّلة الروائية فى (أفندينا) كثيراً عن سياقات تخييلية حكائية جديدة خارجة عن الحدث التاريخى ذاته ما عدا بعض الاستثناءات والمشاهد القليلة انتقاها الروائى من نفس السيّاق السردى وبعيداً عن جفاف الأحداث وبرودتها ما أضفى على النص واقعاً نابضاً درامياً حاراً كتلك التى تقمّص فيها الباشا عباس حلمى شخصية الحاج عباس الشامى وخروجه المتكرر إلى خان الأزبكية مع رفيقه الشيخ صفاء الدين القولى من أجل تفقّد أحوال الرعية عن قرب ومعرفة حال الأهالى اليومية ثم لقائه السرى الحار والمشبوب بالشهوات والإعجاب بالغازية الغجرية «ورد» وارتياحه لأجواء الخان وملهاته وروائحه وناسه ومشروباته.
أو حين يخرج النص التاريخى من تاريخيته وإخباريته وأحداثه فيكتب الروائى هذا المشهد العاطفى الساخن عن جارية صفاء الدين التى اهداها له محمد على، يكتب بتخييلية راقية وكلماتٍ صافية: «عدت إلى بيتى آخر النهار منهك القوى، ارتميت على فراشى حتى أذان المغرب، كنت مابين النوم والصحوة، حتى أقتربت جاريتى تنادينى لأول مرة باسمى مجرداً، خلتها يلدز زوجتى رحمها الله، رددت بعفوية تامة: أى حبيبتي، ارتبكت الجارية، واحمرّت خدودها».. إلى أن يصل فى وصف
الجارية والمشهد: «هى امرأة ليست طويلة ولاقصيرة. بها إمتلاء محبب شهى، صدر ناهد على جسد منحوت أملس، خفيفة الروح كفراشة، ورشيقة كغزالة!..لها ذراعان قويان إن سألتها لجسدى تكبيساً، أدته على أحسن مايكون….» وإلى آخر المشهد الحميمى النابض بحسيّته: «صفاء ذهنى لم أتوقعه، ثقلت عيناى فأسبلت جفونى، مستسلماً.. شعور تملكنى كأنى عدت شاباً فتياً، فلم أصبر فأتيتها مبتهجاً، فأتتنى منشرحة بتأثيرها وفعلها! رحنا فى عناق شهى حميم….».
حيث وجدت أن هذه المشاهد الحكائية الماتعة مختتمة بالفصل الأخير البديع (١٤ يوليو ١٨٥٤)، فى هذا الفصل الذى وقف فيه شيخ صفى الدين على واقعة وفاة عباس حلمى الصادمة وما رافقها من غموض مكائدى متشابك،  وما ذكرته من حكايات أخرى خارج السياق السردى إنما كانت فى بعدها الإنسانى التعبيرى ضرورة فنية تؤكد الزمن الروائى الخاص معززاً بالخيال، ومشاهد تمتاز بقدرٍ كبير من التخييل التاريخى، والأدبية مضيفاً الروائى فى سياقه وظيفة جمالية للنص ومجيداً فى حبكته الفنية..فمن شروط الخطاب الروائى حين يعمل على المادة التاريخية وهى بين يديه كعجينة خام من الأحداث والتفاصيل أن يحوّل هذه العجينة إلى حبكة متخيّلة، ويؤكد ذلك بول ريكور فى كتابه (الزمان والسرد): «إن ابتكار حبكة للمادة التاريخية هو الذى يحيلها إلى مادة سردية، وهذا يعنى إعادة إنتاج التاريخ بالسرد، وما الحبكة إلا استنباط للأحداث المتناثرة فى إطار سردى محدد المعالم».