صلاح عيال يكتب : الفراكيــن

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

كل يوم فى الثالثة عصراً، ومن محطة المعقل، ينطلق قطار الأحمال بعرباته «فراكينه» الخمس الفارغة ذات الأبواب العريضة والعالية لنقل المواد الغذائية والمنزلية والأحمال الأخرى، الصغيرة والمتوسطة الأحجام، إلى ميناء أم قصر، جنوب البصرة. وما بين هذه الفراكين تُربط عجلتان مسطحتان، لنقل مواد البناء كحديد التسليح وصفائح الألمنيوم وأسلاك الكهرباء والمعدات الثقيلة. يذهب القطار فارغا ويعود فى الساعة الثالثة فجراً، ليتم تفريغ حمولته فى المخازن والساحات المخصصة فى ميناء المعقل.


حصتنا، نحن الصبية، فى هذا الوقت، هى سكة القطار القديمة الممتدة بموازاة بيوتنا، فى محلة خمسميل، وعلى مبعدة خمسين متراً منها. تفصل السكة عن البيوت ساقية عريضة وشارع ينقطع امتداده عند طريقى بغداد القديم والجديد، كنا حينها نضع آذاننا على سكة القطار، نسترق السمع، فنتهيأ لقدومه المهيب، حاملين بدشاديشنا المقلمة وبأيادينا الحصاة الكبيرة، بحجم الكف أو أصغر قليلاً. وعند عبوره نرمى الفراكين الفارغة مستمتعين بالصدى الذى يحدثه ارتطام الحصى، والذى يتلاشى أحيانا، مع ازدياد اهتزازات القطار وسرعته.

اقرأ ايضاً| حسام المقدم يكتب : قَلب المتحف


كأننا والفراكين الفارغة بأبوابها الكبيرة والمفتوحة، فى حرب دائمة.
يوميا، كانت السكة الحديثة، الموازية لسكة قطار الحمل، يخطف عليها، فى الساعة السادسة صباحا قطار المسافرين، ويلحقه بعد ثلاث ساعات بالضبط قطار آخر، ثم يعودان مساءً، فى التوقيت ذاته. فإن حظينا بهما، نستبدل الحصى بالتلويح والصياح غير المسموع للمسافرين الذاهبين من محطة قطار المعقل إلى محطة قطار بغداد.


كأننا والمسافرين، خلف النوافذ المغلقة والواقفين على أبواب العربات، فى وئام دائم.
لا نعرف نحن الصبية، أن قطار المسافرين يمر بمحطات يتجاوزها وأخرى يتوقف عندها لينزل جنودٌ قليلون ومدنيون كثر، عوائل وأفراداً ويصعد آخرون ثم يمضى. فالذى يكبرنا سناً، كان قد أقله القطار فأدرك عدد هذه المحطات وخمّن عدد النازلين والصاعدين.

كنت الأصغر بين الصبية والأقل مشاركة معهم. مرة، أخذتنى الرغبة لقطع المسافة من داخل المحلة إلى السكة، فبيتنا يبعد عن سكة القطار. ومرة أخرى، وعلى ما أتذكر، كانت الأخيرة، إذ أمسكنى أبى من يدى قبل أن تفوز برميتها على قطار الأحمال. ركلنى برجله ثم أمسكنى من أذنى، كاد يقطعها، هكذا خُيل إلىَّ.. فى البيت، لم يكتف بضربى، بل أفرغ غضبه بأمى.


ومع بداية حرب الثمانى سنوات، انقطع رمى الصبية للحصى بانقطاع قطار الأحمال، كما رُفعت السكة، لكننا (وقد كبرت واشتد عودى) لم نترك عاداتنا، بقينا نضع آذاننا على السكة، نسترق السمع، لعله يأتى فنلوّح للمسافرين، كانوا قليلا من المدنيين والكثير الكثير من الجنود.


أخى الكبير وابن عمى وابن خالى وابن خالتى وجارنا وابن آخر بيوت المحلة وغرباء، نراهم يلوحون لنا من خلف مقاعدهم، لا نميّزهم. بعضهم يقف على أبواب العربات فنتعرف إليه، أحد الواقفين كان أخى، يوم سافر إلى بغداد للالتحاق بوحدته العسكرية فى خانقين. كان أبى ممسكاً بيدى، ننتظر قدومه بالقطار، لا أظننا رأيناه، ولكننى أوهمت نفسى وقلت لأبى:


والله رأيته.. يرفع يده ويشير إلينا.. هل رأيته يا أبى؟
لم يعد أخى والآخرون أيضا، أقصد مع استمرار الحرب، لا أحد يصعد القطار، لقد أُغلقت محطةُ قطار المعقل، بسبب القصف الذى هدّ المدينة والميناء، نقلوا القطارات بعيدا، إلى محطة الشعيبة غرب البصرة.
ذات يوم، رأيت أبى، فى آخر أيامه، يضع أذنه على السكة.