صفوت مصطفى يكتب : أرزاق

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

بكفيه كان يمسك لهم ضوء القمر، ويحشو به الأرغفة فيأكلون وهم يضحكون، وفى ليالى الشتاء الباردة كان يفرش عليهم سواد الليل فينامون منتسقين وهم بالدفء يستمتعون.
الآن وقد كبروا فلم يعد ضوء القمر يملأ بطونهم التى اتسعت، وما عادت مساءات الشتاء المظلمة تدفىء أحلامهم العارية، وأصبحت البطون تشتهى أطعمة دلتهم عليها بخبث أنوفهم الكبيرة وعيونهم الواسعة، كان عليه أن يضاعف جهده ليلبى بعض احتياجاتهم فى وقت أصبح الناس يعتمدون على الآلات بدلاً من ذلك (الأرزقى) الذى أصبح كالساقية القديمة بعد أن سكن الربو رئتيه.

هذا الصباح على غير عادته، لم يكن رأسه مثقلا بتدبير أمر الطعام بعد أن بشره مسئول جمعية التنمية أن سيارة بنك الطعام ستصل اليوم، وعليه أن يذهب ليحصل على نصيبه كما جرت العادة.

والليلة سيرضى بطونهم، وعندما يتحلقون حول الطبلية سيقسم الطعام إلى ستة أجزاء، وسيؤثر نفسه بالنصيب الأكبر، وأثناء الطعام يقوم بتوزيعه عليهم كما اعتادوا على ذلك.
هز كتفيه وأخذ نفساً بكل قوته ثم اتجه للجمعية وهو يشق طريقه وسط القرية القديمة اختصاراً للمسافة.

و قدماه الكبيرتان تضغطان بقوة أرضية الشوارع المسقوفة تتحرك أتربة ساكنة  منذ سنوات، فيرتفع الغبار القديم إلى أنفه، يسعل بشدة، يحس بثقل أنفاسه ويفكر فى الرجوع، لكنه يتذكر البطون الجائعة فيمضى للأمام متناسياً أمر أنفاسه متشاغلاً بتقليب عينيه فى البيوت النائمة منذ زمن.

وأخذ يذكر نفسه بأصحابها رجالاً ونساءً، وعندما مر أمام بيت الحاج منصور رأى رايته الخضراء تستند على الحائط لقد غطتها الأتربة، تحركت الذكريات فى عقله، ورأى الحاج منصور يحمل الراية الكبيرة مسنداً طرفها الأسفل على بطنه.

وهو يتقدم (العدة) يوم العيد، ومن خلفه يسير رجال الواحة يحمل أحدهم الطبلة الكبيرة وآخر يحمل الطبلة الصغيرة، وبعضهم يدق الصاجات وهم يمدحون ويذكرون، كان الموكب يخرج من درب النجارين إلى ديوان العمدة يشربون الشاى ويقيمون (حضرة).

ومن ثم يطوفون  شوارع الواحة قبل أن يصلوا للمقابر، وعند قبة الشيخ مسعود تقام الحضرة الكبيرة، وتوزع النساء القُرص السادة أو المحشوة بالعجوة ترحماً على موتاهم فيتسابق الصغار بجلابيبهم المقامة للحصول على أكبر عدد منها وهم حفاة.

وكانت أحلامه بسيطة كواحتهم التى كانت أكثر رفقاً بالآباء، فلم تكن هناك محال تعرض ملابس بألوان زاهية خلف ألواح زجاجية لتسرق عيون الأطفال كما حدث لابنته الصغيرة عندما استوقفته وهى تشير إلى فستان بألوان فاقعة وتقول:
عايرة أشترى ده

ومن ثم  جذبها برفق، تشبثت بيده تحاول إيقافه وهى تبكى، لم تكن تعلم أن دموعها تنزل على قلة حيلته كالجمر كان يحمله الخفير ليضعه على شيشة العمدة،  ولكن المسكين تعثر وأسقط الجمر فى حجر العمدة الذى وقف (يتنطط).

وهو يحاول إبعاد الجمر عن جسده حتى أبعده بعد أن حرق جلبابه بل ووصل إلى جلده، فنزل بيديه ورجليه على الخفير المسكين الذى وضع ذراعيه على وجهه وقفاه وهو يقسم ويقول:
ما كنش قصدى يا حضرة العمدة.
حاول أن يهدىء الصغيرة دون فائدة، فما كان منه إلى أن حملها على كتفيه، ووضع ساقيها الصغيرين حول رقبته، وأخذ يهز كتفيه ويقول:
- جمل أبو قلة كسر الجرة.

ومازال يغنى حتى هدأت، لم يفعل معها كما فعل أبوه عندما كان صغيراً يقف بجانبه وهو يشترى التموين من دكان البقالة الوحيد وقتها، فوقعت عيناه على حلوى (الكراملة) فأشار إليها وقال لأبيه:
عايز حلاوة.
 ساعتها ضغط أبوه على معصمه بقوة، وجذبه بقسوة قائلاً:
لما نروح البيت.
 وأمام باب البيت صفعه بقوة فى غفلة منه فاحتضنته الأرض وأخذت تلعق دموعه الطفولية، بينما يواصل الأب الشتائم واللعنات، فخرجت أمه على إثرها لتعرف الخبر، وقامت هى الأخرى بتأنيبه، وفى النهاية أشار إليه بسبابته وهو يقول:
إياك تعمل كده تانى، وعندما دخل حملته أمه فى حجرها، وهى تطيب خاطره قائلة:
معلش أبوك عايز مصلحتك.
 زمن.. يومها لم يطلب شيئاً أبداً، كل شىء تغير حتى قلوب أهل الواحة.

وصل إلى نهاية البيوت القديمة، لم يعد أمامه إلا أن يهبط المنحدر ليجد نفسه أمام الجمعية، تمنى لو أنه برميل ليتدحرج ويصل بسرعة، يجر قدميه بصعوبة، يحاول السيطرة على إبهام قدمه التى نخرت كفئران الواحة فى مقدمة حذائه القديم حتى صنعت لها فتحة يحاول الهروب منها خارجاً.

وفى النهاية لم تمنعه أنفاسه المتلاحقة التى أصبح يسمع صوتها من الوصول لشباك الجمعية حيث سبقته كتل من اللحم البشرى، بصعوبة أعطى للمسئول صورة البطاقة الشخصية والختم لمطابقتها بالكشوف وإثبات الاستلام، احتضن الكرتونة بقوة، لم يجد صعوبة فى الخروج فقد لفظته الأجساد المتلاطمة أمام الشباك.

وبدأ يجر قدميه للعودة من نفس الطريق، شعر بكتلة ضخمة تجثم على صدره، أصبح التنفس أكثر صعوبة، بيوت الواحة أصبحت صغيرة، سمع صوت ارتطام، لم يعد باستطاعته الوقوف ثانية، أصوات أقدام تتجه نحوه، حاول التشبث بالكرتونة ولكن أصابعه خذلته هذه المرة، ارتخت أعصابه واختفت الواحة فى ظلام شديد.

وفى المساء كان ابنه الأكبر يقف على قبره وسط المشيعين الذين كانوا يدعون له بالرحمة بينما دموعه تسيل على خديه بكثرة، أخذ الناس يواسونه، ويشدون على يده، ويذكرونه أنه الآن أصبح رب الأسرة.

وقبل أن ينزل من المقابر أحضر له أحدهم الكرتونة التى كانت مع والده، أخذها واتجه نحو البيت حيث كانت أمه واخوته فى انتظاره.

وبعد انصراف المواسين أغلق الباب، وأخذت أمه الكرتونة لتعد لهم العشاء، تحلقوا حولها بينما تسيل دموعها وتقسم الطعام إلى خمسة أجزاء فقط.

اقرأ أيضًا| صاحب تجربة الإمساك بالجنون: أردتها رواية حزينة..فجاءت ساخرة