نشوة أحمد تكتب : صباح 19 أغسطس: استعادة تاريخ من الصراعات والتحول

صباح 19 أغسطس
صباح 19 أغسطس

فى قانون الزمن لا وقت يشبه الآخر، فثمة أيام لا يمكن تجاوزها وإن مضت، وإنما تبقى مثبتة على حائط الذاكرة، تأبى أن تسقط أو تتوارى.
«صباح 19 أغسطس»، هذا التاريخ اختارته الكاتبة ضحى عاصي؛ عنوانًا لروايتها الأحدث، الصادرة أخيرًا عن الدار المصرية اللبنانية، ولكون التاسع عشر من أغسطس تاريخًا يفتقر إلى الألفة، ولا يستدعى حدثًا محليًا إلى ذهن المتلقي، فقد أسهمت غرابته فى تحقيق ما أرادته الكاتبة من  ضبابية متعمدة، تغلف عتبة النص الأولى، حفزت عبرها التساؤلات التى تفضى طواعية إلى النص. وتمنح القارئ منذ اللحظة الأولى للسرد؛ دورًا يتجاوز التلقي. وتدفعه للبحث عن مدلولات التاريخ، وطبيعة الفضاءات، والأحداث، والشخوص، التى قد يكون محصلة لها.


انتهجت الكاتبة أسلوبًا من المزج والمزاوجة فى الفضاءات المكانية للسرد، التى قسّمتها بين مصر وروسيا، وفى أسلوب السرد الذى جاء بعضه على لسان الراوى العليم، والبعض الآخر عبر أصوات الشخوص، وأيضًا فى زمن السرد، الذى تدفق فى نسق أفقي، تخللته مساحات واسعة من الاسترجاع.


اعتمدت الكاتبة تقنية الوصف كأداة رئيسية، استطاعت من خلالها أن تقدم تجربة بصرية لبقعة بعيدة من العالم، رسمت عبرها صورًا للثلوج، المسارح، الاحتفالات، الساحات والميادين. وعززت واقعية نسيجها، بما استدعته من مفردات اللغة الروسية مثل سيوز وتعنى الاتحاد السوفيتي، البريسترويكا وتعنى إعادة البناء، الكاركتريستكا وتعنى تقييمات السلوك، الداتشيا وتعنى بيت ريفي، سفولج وتعنى وغد، وغيرها من مفردات روسية، كما استدعت روافد أخرى للثقافة الروسية.

ومنها الغناء والزى والأكلات الشعبية مثل البلميني، الكارافاي، سلطة الستاليشنيا، حساء البورش، وغيرها من المفردات الثقافية، وأيضًا العادات التى بثت عبرها مزيدًا من الحياة لما  رسمته من صور للمجتمع الروسي.


«عند وصول موكب العُرس إلى المطعم وقفت (أولجا إيفانوفا) فى استقبال العروسين وهى تحمل فى يديها خبز الكارافاى السميك، الذى يتوسطه طبق صغير بداخله ملح، حيث قطع كل من العروسين جزءًا من رغيف الكارافاى ثم غمساه فى الملح، وقد جرت العادة أن من يقطع الجزء الأكبر من الرغيف فإنه سيكون صاحب الكلمة العليا فى الأسرة».


حمولات معرفية
انطلقت الكاتبة فى رحلتها السردية من شخصيتها المحورية «كاملة»، الفتاة التى امتزجت فى عروقها الدماء الروسية والمصرية، بعد أن تزوجت أمها من رجل مصرى كان يدرس فى روسيا، غير أن الأب كغيره من أصحاب الجنسيات الأخرى الذين تزوجوا من روسيات، عادوا إلى أوطانهم تاركين نطفهم تنمو دون أن يعيروها بالًا. وعبر النمو الدرامى لشخصية كاملة؛ رصدت عاصى تحولات سياسية كبيرة فى المجتمع الروسى والمصري، ووثقت أثر تلك التحولات، على النسيج الاجتماعى والقيمى لكلا المجتمعين.


ورغم أن تاريخ التاسع عشر من أغسطس ظل مبهما بشكل ما، فإن تدافع الأحداث وتناميها الدرامى فى روسيا، كفضاء مكانى للسرد؛ أحال إلى محاولة الانقلاب على الرئيس الروسى غورباتشوف، التى جرت فى ذلك التاريخ، ودعوة يلتسن للمواطنين الروس من أجل الخروج ضد هذا الانقلاب، الذى أعقبه بشهور قليلة انهيار الاتحاد السوفييتي.


وقد أتاحت هذه الظلال السياسية التى حضرت بقوة فى خلفية الأحداث؛ تمرير حمولات معرفية كثيفة تدفقت عبر النسيج فى انسيابية وسلاسة، فاستدعت الكاتبة حصار لينينحراد، قسوة الجوع والانتصار على الألمان، الصرب، الحرب وما تسببت به من تفوق عدد النساء على الرجال وأثر ذلك على النسيج الاجتماعى فى روسيا، كذلك استدعت حقبة التسعينيات الحزينة ومعاناة الروس خلال تلك الحقبة، من انهيار اقتصادى وفقر ونقص فى السلع والمنتجات. ومررت الكثير من المعارف الأخرى، التى تتصل بالحروب الروسية.

وبالرؤساء الروس وسياساتهم الخارجية والداخلية، لاسيما ما قام به «بوتين» من إنهاء نفوذ مجموعات رجال الأعمال والمافيا، الذين احتكروا المال والسلطة «مذبحة الأوليجارك». وحين انتقلت «عاصي» للقسم الثانى من السرد، الذى كانت مصر فضاء مكانيًا له؛ استمر الحضور القوى ذاته للظلال السياسية. فمررت معارف عن 25 يناير وتأثيراتها على القطاع السياحي.

وعن الفساد، وكواليس عالم المال والأعمال. ومررت أيضًا لمحات من الحضارة الفرعونية، وبعض التراث الشعبى المصرى عبر استدعاء الأغانى الفلكلورية «يا بت جملك هبشني.. الهبشة جات فى العباية.. رمان صدرك دوشني.. خلى فطورى عشايا». واستدعت الشعر مرات إلى بنائها، وقد أسهم المزج بين أجناس أدبية متنوعة، فى إنعاش نسيجها الروائي، وأكسبه مزيدا من القوة والجمالية. 


عولمة الصراع
لم تكن «كاملة» الرابط الوحيد بين فضاءات السرد فى كل من روسيا ومصر، وإنما لعبت خيوط أخرى الدور نفسه، لا سيما تلك التى ارتبطت بالصراع وتشعبه عالميًا. فقد نجم عن حرب روسيا فى أفغانستان؛ تحول ولاء بعض الجنود الروس إلى الجانب الأفغاني، ثم تورطهم فى حروب وتفجيرات وأزمات كبرى فى مناطق شتى من العالم، ثم توغلهم فى عالم المال من أبواب خلفية من أجل دعم مؤيديهم وأنشطتهم الإرهابية، لا سيما فى مصر أثناء حكم الإخوان.

وكذلك عمدت الكاتبة لاستخدام بعض تقنيات السرد لأداء الدور نفسه فى الربط بين فضاءاتها السردية، فاستخدمت التماثل بين لعنة الفراعنة ولعنة رومانوف، وبين الثورة الروسية والثورة المصرية فكلتا الثورتين تشاركتا الصراخ ذاته، والفزع نفسه، والحماس بعينه، والدماء التى سالت. وأوردت تماثلًا آخر بين شخصية عمر «ابن عمة كاملة».

وأوبلومف بطل رواية جونتشاروف، الذى قضى عمره فى حياة باهتة وفارغة وكسولة. وبين موقف الشيشان وموقف المصريين من جماعات الإسلام السياسى «لكنهم أيضًا لم يعرفوا ماذا يريدون، لم يعجبهم إسلام المجاهدين، أفكار الصوفية وطرقها المتغلغلة فى مشاعرهم جعلتنا فى أعينهم متشددين».


  ومن أجواء الصراع العالمى التى عكسها النص؛ انبثقت صراعات فردية لها دوافع أيدولوجية، فضلًا عن الصراع من أجل البقاء، فى مواجهة الحصار والكساد والفقر. ومن العالم الخارجى إلى دواخل الشخوص؛ تسللت صراعات أخرى، فانقسم عمر بين حبه لكاملة وبين الشعور بالضآلة أمامها.

وانقسمت كاملة بين إشفاقٍ على عمر، ونفس فقدت الشغف به. وانقسم رسلان بين بعضه، الذى ينتمى لحياته الأولى فى روسيا مع كاملة، وبعضه الذى خلفته الحرب والقتل والدماء. وعبر زخم هذه الصراعات التى هيمنت على مفاصل السرد؛ مررت الكاتبة صورا عديدة من التناقضات والمقابلات بين البهجة «طائر الكانسوب» والحزن «طائر السيرين».

وبين الفقر والثراء، ادعاء الفضيلة والتصرف بهمجية، الإيهام بالتدين وانتهاج التسلق والميكيافيللية، الحنين للاتحاد السوفيتى والانحياز للانفصال.


شخوص متحولة
تسللت من النسيج رؤية مفادها أن الحياة تتقلب دائمًا كما تتقلب الفصول، تتراوح بين رخاء وفقر، ازدهار وانهيار .. وانطلاقًا من هذه الرؤية؛ وسمت الكاتبة شخوصها بالتحول. فحين كشفت الحياة فى روسيا خلال حقبة التسعينيات الطائشة عن وجهها القبيح، وكشر الفقر عن أنيابه، تحولت كاملة من الفتاة المرحة الناعمة والتلقائية، إلى امرأة بائسة تصارع العوز، ثم إلى قاسية تحركها المصلحة. كذلك تحول رسلان من الفتى الصالح إلى الإرهابى القاتل.

وتحولت روسيا حقبة بعد حقبة. وتبدل الانهيار الاقتصادى بالقوة، ثم ارتدت وجها آخر يشى بتجاوز ذلك الانهيار، كذلك تحولت مصر مرة بفعل الثورة، ومرة تحت وطأة حكم الإخوان، ومرة أخرى بعد إبعادهم عن الحكم.  وقد أسهمت هذه التحولات فى زيادة ديناميكية النص وإكسابه مزيدا من الجاذبية والتشويق. 


ومثلما لجأت عاصى إلى تقنية الحوار والوصف لإتاحة وقفات واستراحات سردية، لجأت بالمقابل إلى تقنية الحذف فى بعض مواضع من النسيج، لتسريع إيقاع السرد. فاختزلت أعوام وجود شخصيتها المحورية فى مصر ما قبل الثورة. واستأنفت السرد مع اللحظات المفعمة بالصراع التى زامنت الثورة وتلتها.

وبينما حذفت مساحة زمنية لم تؤثر على تواتر الأحداث، لجأت إلى تقنية التكرار فى مواضع أخرى لتأكيد فلسفتها بأن للأنسان ذاكرة تحتفظ طويلًا بالألم، لذا لم تتخلَ كاملة  عن عادة تبليل أصابعها لتناول ردة الخبز من فوق طاولة الطعام.

وكذا لم تتخلَ عن الرغبة فى الحياة والمقاومة والأمل وهو ما وشى به تكرار أغنية واحدة فى مواضع متفرقة من النسيج.. «دائما ستوجد الشمس، ودائما ستوجد السماء، ودائما ستوجد ماما، ودائمًا سأكون أنا».  

اقرأ ايضا | ضحى عاصي: شعبان يوسف وحسين حمودة سر بقاء كتاباتي