قصر والدها أصبح مقر الجامعة الأمريكية بميدان التحرير

حكايات| «نعمت علوي».. مصرية أحبها «ريلكه» ورسمها «بيكمان»

بورتريه نعمت علوي خلال مزاد ألمانيا عام 2018
بورتريه نعمت علوي خلال مزاد ألمانيا عام 2018

■ كتب: رشيد غمري

في مزاد فني ببرلين عام 2018 حققت لوحة بعنوان «المصرية» رقما قياسيا ألمانيا، بلغ  4.7 مليون يورو، وهى للرائد الحداثى الألمانى «ماكس بيكمان»، وتتضمن «بورتريه» للأرستقراطية المصرية «نعمت علوي»، التى كانت أيضا الحب الأخير فى حياة الشاعر الشهير «راينر ريلكه»، ورسمها آخرون فى باريس، كما كانت أول امرأة من الشرق تظهر على أغلفة مجلات الموضة العالمية، وبعدسة أشهر مصورى القرن العشرين، ودارت دراما حياتها وسط مبدعين ومتمردين، وعلى وقع حروب ومطاردات، أبت خلالها شعلتها الانطفاء وسط العواصف، حتى كان للأقدار الكلمة الأخيرة.

◄ صادقت «مان راي».. و«لي ميلر» عاشت مع زوجها في مصر

◄ طلقها وجيه مصري فتزوجت أميرا روسيا وفرقتهما الحرب

◄ أول امرأة شرقية تظهر على غلاف «فوج» العالمية

عرفت باسم «نعمت علوي هانم»، لكن اسمها الأصلي هو «نعمت خيري» نسبة إلى والدها «أحمد خيري باشا» «ناظر» المعارف والداخلية فى وزارة محمد شريف الرابعة عام 1882، والتى أعقبت فشل الثورة العرابية، واحتلال الإنجليز لمصر. كما ترأس ديوان الخديو توفيق. وكان أيضا زوجا لـ«زينب هانم» ابنة الخديو إسماعيل، وعاش معها فى القصر الذي بناه الخديو، وأصبح فيما بعد مقر الجامعة الأمريكية بميدان «الإسماعيلية» سابقا، «التحرير» حاليا. و«نعمت» هى الابنة الصغرى للباشا.

أما لقب «علوى» فأخذته عن زوجها الأرستقراطى «عزيز علوي» المهندس ورجل الصناعة، وأول من أدخل مكيفات الهواء إلى مصر، كما امتلك عشرات التوكيلات التجارية، بالإضافة لولعه بالفنون، وخصوصا السيريالية التى كان على صلة بأقطابها فى مصر والعالم. والشائع أنه طلقها بسبب إسرافها، وحبها للسفر الدائم، لكن القصة أكثر تعقيدا.

◄ الحب الأكبر
رغم زواجها مرتين، وتعدد القصص حولها، لكن الكثيرين يعتبرون شاعر الألمانية النمساوى «راينر ريلكه» حب حياتها. وهو أيضا تزوج أكثر من مرة، وخاض عددا من العلاقات أشهرها مع الكاتبة والمحللة النفسية «لو سالومى» التى أحبها «نيتشه» من قبل، ورفضت الزواج منه، لكن الأقدار جعلت من «نعمت» الحب الأخير فى حياته، حيث تعرف عليها قبل ثلاثة أشهر من وفاته المفاجئة، والتى يدعى البعض أنها كانت سببا فيها. 

في سبتمبر عام 1926 كان الشاعر فى الحادية والخمسين، وفى قمة مجده، ويقيم فى فندق «سافوى» بـ«لوزان» السويسرية. وكانت «نعمت» تقيم بالفندق نفسه، وتصادف أنها كانت تقرأ كتابه «مذكرات مالتى روليدس بريجى»، الذى ضمنه الكثير من مآسيه الشخصية، كما كانت مولعة بأشعاره.

ووفقا لكتاب «الصداقة الأخيرة لراينر ماريا ريلكه» لكاتبه «إدموند جالو» صديق «نعمت»، والصادر عام 27 فى باريس، فقد كانت تجلس بصحبته فى حديقة الفندق، وتحدثه عن إعجابها بكتاب «ريلكه»، فطلب منها أن تنظر خلفها، وأشار إلى رجل يعكف على القراءة وحيدا تحت شجرة، وأخبرها أنه الشاعر «ريلكه»، فنهضت على الفور وعبرت له عن إعجابها الشديد بكتابته.

ووجد الشاعر نفسه أمام امرأة جميلة، مثقفة، أنيقة، وراقية للغاية، فأعجب بها فى الحال. ويبدو أنها مثلت له تجسيدا لسحر الشرق الذى كان قد أغرم به قبل عقد ونصف عندما زار مصر، وكتب قصائد تغنى فيها بالنيل ومعبد الكرنك وأبى الهول، ومكث أكثر من ثلاثة أشهر، ما بين القاهرة والصعيد والإسكندرية، واصطحب معه نسخة من القرآن الكريم، بقيت معه إلى آخر حياته.

وكان «ريلكه» يعرف «الإسلام» وتحدث عنه بإيجابية فى كتاباته ورسائله، حتى أنه كتب قصيدة عن النبى محمد صلى الله عليه وسلم، ترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوى، ضمن كتابه عن الأدب الألمانى فى نصف قرن. ووصف فيها لحظة الوحى مستوحيا سورة «العلق». كما تضمنت بعض رسائله وصفا للنبى بأنه: «يشبه نهرا، يشق طريقه من الينابيع الأصيلة فى الجبال، ويجرى فيضه حتى يصل إلى الله مباشرة.» وأبدى إعجابه ببساطة التدين الإسلامى وخلوه من التعقيدات، ضمن رسائله إلى «إلزا بلومنتال فايس»، و«لو سالومى». وهو ما جمعه «هورست نافلسكى» ضمن ما كتبه «ريلكه» عن مصر فى كتابه «رحلة إلى مصر». وهكذا مثلت «نعمت» أيقونته للجمال المصرى الشرقى، وجسدت انطباعاته السابقة.

◄ اقرأ أيضًا | فى الجامعة الأمريكية: حفل توزيع جائزة نجيب محفوظ

◄ لقاء أخير
التقى «ريلكه» و«نعمت» مرات فى «لوزان»، وقاما بجولات بسيارتها التى كانت تقودها بسرعة، وسط المناظر الخلابة. وعاد الشاعر إلى بيته فى «مونترو»، وأخبر سكرتيرته «جينيا تشير نوسفيتو» بأنه ينتظر بشوق وصول أجمل امرأة فى العالم. وقطف بنفسه الورود لأجلها من حديقته، حيث جرحته شوكة، فربط إصبعه، واستقبل حبيبته، وقضيا أسبوعا فى جولات وحوارات، حتى سافرت، ولتبدأ صحته بالتدهور. بدأ الأمر بالتهاب جرح إصبعه، وامتد إلى ذراعه، ومنه إلى باقى جسده، والسبب هو إصابته حديثا باللوكيميا.

وفى مشفى «فال مون» قضى شهرين يصارع المرض والوقت ليكتب عددا من القصائد والرسائل، حتى رحل فى ديسمبر من العام نفسه. وقد فجعت «نعمت» برحيله، لكنها قاومت أحزانها، ووقفت بعد عامين أمام عدستى الشهيرين «مان راى»، و«لى ميلر»، وكانت أول امرأة من الشرق تظهر على غلاف مجلة «فوج» الأمريكية، مع تعليق عن وجهها الفرعونى الذى يشبه ملامح تماثيل الملكات. وواصلت السعى للحصول على فرصة فى عالم السينما، لكنها يوما بعد يوم، كانت تبدو كامرأة محطمة. وفى أواخر الثلاثينيات تزوجها أمير روسى يدعى «نيكولاى ميتشرسكى». ولحظها السيئ، قامت الحرب العالمية الثانية بعد أسابيع، فاضطر إلى تركها واللحاق بالجبهة، وفرت هى مع العائلات الفرنسية صوب «نورماندى».

◄ لوحة غامضة
رسم «ماكس بيكمان» لوحة «المصرية» عام 42 خلال هروبه من النازيين فى «أمستردام». وكان أحد رواد الحداثة المرموقين عندما اعتلى «هتلر» السلطة. وفى عام 37 جمع النازيون خمسمائة عمل له من المتاحف، وضموها للمعارض الفضائحية التى حملت اسم «الفن المنحط»، تمهيدا لحرقها. وفى اليوم نفسه فر الفنان مع زوجته، خوفا على حياته بعد مقتل واختفاء عدد من الفنانين الحداثيين.

وتوجه إلى «باريس» ومنها إلى «أمستردام». وفي تلك الفترة رسم بورتريه «نعمت علوى» الذى لفه الغموض. فى البداية أطلق عليه اسم «وجه بالأزرق والرمادى».

وأجاب عن تساؤلات أصدقائه بأنه لامرأة زارته فى الحلم. لكنه بعد ذلك أطلق عليه اسم «المصرية». وعرف المقربون منه صاحبة الوجه، التى كانت عارضة أزياء شهيرة، ورسمها عدد من فنانى باريس. ووصفوا اللوحة بأنها تجسد الأنوثة فى صورتها الحسية الأولى. وفى صفحة من يومياته بتاريخ 27 يوليو من ذلك العام كتب ملحوظة حول وجه أنثى يضىء من الأسفل. وهو التصور الأول لفكرة اللوحة التى يعتبرها بعض النقاد أجمل أعماله وأكثرها غموضا. وقد انتقلت بعد رسمها بعام إلى ألمانيا عندما اقتناها تاجر اللوحات المثير للجدل «إيرهارت جوبل».

وللمفارقة فقد كان يعمل لصالح «هتلر» فى اقتناء اللوحات التى تناسب ذوقه بغرض إقامة متحف «الفوهرر» فى النمسا. وبالطبع لم تكن أعمال «بيكمان» مما يصلح للمتحف، لكن بحكم صداقتهما، ساعده ماديا ببيع لوحاته، وتهريبها سرا إلى زبائنه داخل ألمانيا. وبعد وفاته آلت اللوحة لزوجته المؤرخة الفنية «باربارا جوبل»، والتى عمرت حتى بلغت الخامسة والتسعين، ورحلت قبل عام من المزاد الذى حققت فيه لوحة «المصرية» الرقم القياسى. وقد جمع الفرار من النازى بين «نعمت» و«بيكمان» الذى كانت لوحته آخر حدث مهم ارتبط باسمها قبل رحيلها الذى تكثر الروايات حوله. 

◄ سيدة الشائعات
كثرت الشائعات حول حياة «نعمت علوى»، وموتها. قيل إنها انتحرت، بعد اكتشافها خيانة زوجها «عزيز علوى» لها مع صديقتها العارضة والمصورة السيريالية «لى ميلر». وقد ارتبط الرجل بالفعل بـ«ميلر» وتزوجها، وعاشت معه عامين فى مصر، وقامت بالتصوير فى سيوة وأسيوط والمنيا، وحققت صورها النجاح. ومع قيام الحرب عملت كمراسلة عسكرية، وكانت أشهر صورها، وهى تستحم فى «بانيو» «هتلر» فور هزيمة الألمان. لكن من الواضح أن كل هذه الأحداث وقعت بعد سنوات من طلاق «نعمت» من «علوي». كما أنها كانت وقت موتها زوجة للأمير الروسى. ولعل البعض يخلط بينها وبين زوجة «علوى» الثانية فى مصر.

وحتى علاقة «نعمت» بموت «ريلكه»، فقد حرفها البعض، وجعل الموت نتيجة مرض سرى انتقل لها من زوجها، ونقلته إليه. وهو ما أورده الأديب السورى «بديع حقى» فى كتابه عن «ريلكه»، ورد عليه «رجاء النقاش» فى كتابه «عباقرة ومجانين»، بأنها عاشت طويلا بعد «ريلكه». كذلك عاش «علوى» وتزوج مرتين على الأقل، ولم يُعرف أنه أو «نعمت» أصيبا بهذا النوع من الأمراض. والثابت أن «نعمت» ماتت وعلى صدرها صورة «ريلكه» الذى اعتبرته حب حياتها، مما جعل الأديب الفرنسى «أندريه مالرو» عند سماعه بذلك يصفها قائلا: «يا لها من امرأة مسكينة».