يوميات الأخبار

أن تكون أبا

عادل ضرغام
عادل ضرغام

لأنك أمى أحبك جدا، ولا أستطيع أن أعود إليك مهزوما، والهزائم فى عصرنا عديدة

الأحد:

الأبوة اختيار، واختيارك أن تكون أبا يضعك دائما فى إطار تحمل أشياء لا يتحملها الآخرون، فالأبوة ظاهريا بها نوع من الخشونة والشدة، وقد لا يفطن إلى وجود النعومة واللين فى إطارهما الكثير من الأبناء بالمعنى الشامل لكلمة الأبوة. ففى بيتك هناك أبوة، وفى عملك أيضا هناك أبوة تجعلك تتعامل مع الجميع بمنطق واحد، قائم على استحضار رغبات الآخرين، ومراعاة السلوك وحوافزه وأسبابه، وتبرير كل ذلك بمنطق خاص للطبيعة الإنسانية. فالأبوة- طالما اخترت أن تكون أبا- تجعلك تقلّم وتؤخر مصالحك ورغباتك، وتعلى من مشروعية رغبات ومصالح الآخرين، وتعمل على إنجازها وتحقيقها ما دامت لا تؤدى إلى ظلم أحد.

ما أحوجنا إلى استحضار مفهوم خاص للأبوة فى حياتنا، مفهوم يصبح إطارا عاما للسلوك، يجعلنا ننظر ونحلل ونستحضر الأزمات والمخاطر القادمة دون ذعر، ويجعلنا جاهزين- انطلاقا من مسئولية أخلاقية لا استعلائية- لتيسير وتذويب كل الأزمات والمخاطر. الأبوة هنا ليست رديفا للسلطة أو لسوء استخدامها، ولكنها مفهوم يتشكل فى براح استعلائى على الصغائر والصراع، ومشدود للمعرفة والإدراك والوعي، يستحضر من خلالها القدرة على قراءة الآخرين، وتبرير سلوكهم، فتتحول الأبوة إلى إطار يجمع ولا يفرق.

فالأبوة طريق للتحمل، ليس بسبب ما يقدمه من جهد وشعور بالمعاناة، ولكن بسبب إنكار أو تقليل قيمة هذا الجهد، فغياب التقدير لهذا الجهد أو غياب الإشارة إلى قيمته تحيله إلى عادة ونمط ونسق للحياة، ولكن الأب- طالما تخيّر أن يكون أبا- عليه أن يستمرّ فى صحراء التعب دون ترقب أو انتظار لتقدير أو شكر.

الاثنين:

أمي.. فايزة سلامتك

لأنك أمى أحبك جدا، ولا أستطيع أن أعود إليك مهزوما، والهزائم فى عصرنا عديدة، أن تقف مكبّل اليدين هزيمة، أن تفقد مهابتك فى عين من أحببت وأعطيت هزيمة، باعدت بيننا هزائمى التى لا تعرفينها، لأننى لا أستطيع أن أطل فى عينيك مهزوما، لا أحب أن تدركى حزن صوتي، ورقة حالي، وقلة حيلتي، ما أستطيع أن أفعله هو أن أحبك، وأردد اسمى مقترنا باسمك علّه يصبح أجمل (عادل ولد فوزية) وسوف أغيره باسمك الذى يحب أقرباؤك أن يستخدموه فى مخاطبتك (فايزة)، لأنك تسعدين بذلك، سوف أناديك به فى سرّي، حين أراك وأقترب منك. حين تمرضين أشعر أن الحياة غريبة جدا، وأن الشمس لم تعد الشمس التى نعرفها، وأن البراح الذى كنا نشعر به فى القرية لم يعد متاحا، وأن هواء الغرفة ثقيل.

فى طريقى إليك تلحّ عليّ صورك ومواقفك ولمساتك الحانية، صورتك الأولى التى رأيتها فى بطاقة التأمين الصحى لأبى بجوار صورة أخى الأكبر سنة 1965م بحثت عنها كثيرا، ولم أجدها، أحب تلك الصورة، لأننى كلما حاولت أن أقرب حسنك أو جمالك لشيء لا أجد شيئا يقترب منك. أتذكر فرحتك ولمستك لى حين أدركت أنى كبرت، وأنى أحبّ، وأصحو على صوت السائق ينبهنا أننا وصلنا أمام المستشفى الذى تعالجين به بمدينة الشهداء، أتحرك وأخشى الدخول إليك، لا أحب أن أراك ضعيفة، لا أريد أن أصدق أن المرض قادر على كل هذا البهاء القديم، فأردد بصمت: أمى فايزة سلامتك.

الثلاثاء:

ملتقى جابر عصفور

أقام المجلس الأعلى للثقافة ملتقى دوليا عن جابر عصفور على مدار يومى الأحد والاثنين 26-27 يونيو 2022، وقد كشف هذا الملتقى- بعيدا عن نبل المقصد وقيمته- عن البؤس الذى نعانيه فى تكريم رموزنا، وعن طريقة وآلية تعاملنا مع هذه الرموز، وهذا ينسحب على طبيعة الإفادة منها، وكشف عن عشوائية التعامل والتعاطى مع منجز رمز بحجم جابر عصفور. ومن يتشكك فى هذا الكلام عليه أن يراجع موعد الإعلان عن المؤتمر بجلساته للمرة الأولى فى يوم 23 يونيو قبل عقد المؤتمر بيومين، وإذا كان المؤتمر قائما على اختيار المشاركين واستكتابهم، وليس من خلال الإعلان العام، فهذا يقتضى وجود لجنة علمية للملتقى، وهذا لم يحدث. فوجود اللجنة العلمية مهم، لتأسيس وتطبيق معايير الاختيار، ومهم أيضا فى الحد من عشوائية ومزاجية الموظفين الذين أعتقد أنهم مارسوا دورا أكبر من حدود وظائفهم فى وجود مشاركين ليس لهم معرفة حقيقية بمشروع ومنجز جابر عصفور.

كل هذا يكشف عن كونه ملتقى أقرب إلى الاحتفال، يتحكم فى أسماء المشاركين فيه من داخل مصر مسافة الاقتراب أو الابتعاد من شخصيات بعينها، ويتحكم فى أسماء المشاركين من خارج مصر الراعى المشارك دون نظرإلى قيمة هؤلاء المشاركين من داخل مصر وخارجها، ودون نظر إلى درجة ارتباطهم فكريا وثقافيا بمنجز جابر عصفور، وإلى طبيعة الإضافة التى يجب أن تكون حاضرة. ويمكن فى هذا الإطار أن نقارن بين هذا الملتقى وملتقى أقامته جامعة القاضى عياض بالمغرب فى احتفالها بمرور أربعين عاما على إنشائها بعنوان (أسئلة المنهج فى قراءة التراث من التراث إلى التنوير) من خلال مختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف بكلية الآداب والعلوم الإنسانية فى 23-24 أكتوبر 2019م، لندرك الفارق بين عشوائية التنظيم التى سوف تفقدنا بالتدريج تفردنا، والتخطيط الصارم المستند إلى لجنة علمية لها قدرة على الاختيار دون انحياز أو مجاملة.

الأربعاء: 

خارج المنهج

لا أريد أن أحدثك عن الندوة التى عقدها اتحاد الكتاب لمناقشة كتاب (خارج المنهج) للناقد محمد الشحات، ولا عن المناقشين سامى سليمان وسيد ضيف الله بالرغم من استحقاقهما للشكر والتحية والتقدير، ولكن أريد أن أحدثك عن مجموعة من القيم التى أصبح وجودها ضروريا، للمحافظة على ما تبقى لنا، قبل أن تتفلت بشكل كلى ونهائي، فنحتاج إلى تأسيسها من جديد. أولها يشكله الناقد محمد الشحات نفسه من خلال إصراره على التميز والعمل الجاد. فمحمد الشحات من خلال منجزه النقدى يؤسس الارتباط بفكرة المشروع الذى يستند إلى جذور معرفية فلسفية فى مقاربة النصوص انطلاقا من تصور نظرى له خصوصية، تصور لا يركن إلى الثبات، بقدر ارتباطه بالحركة الدائمة التى تكشف عن دينامية المشروع، وانفتاحه على الحذف والإضافة، فيصبح هذا المشروع دوائر متداخلة ومترابطة، تتولد بالتدريج من بعضها البعض فى مناح عديدة.

أما الثانية فتتمثل فى أهمية مراجعة ما يكتب وينشر فى إطار الاختلاف الجاد، وصولا إلى مقاربة أكثر صلابة، ورؤية أكثر وضوحا، فقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعى فى العقدين الأخيرين وامتلاك كل فرد لزاوية أو نافذة ينشر فيها ما يريد، ويصنفها وفق رؤيته سلّما جديدا للقيم الفنية انطلاقا من المجاملة ومن طبيعة الوسيط، بل أكاد أجزم أنها- أى وسائل التواصل- مارست التأثير الأكبر على نظريات الأنواع الأدبية، مما يحتم بالضرورة إعادة النظر فى أسس التصنيف والتبويب والتسكين القديمة. فقيمة المراجعة الجادة بالمناقشة بالتعديل أو باقتراح التوجيه ضرورية، وهنا يمكن الإشارة إلى أن المراكز الثقافية التى بدأت تزاحم المراكز التليدة فى الثقافة العربية كوّنت وشكلّت وجودها انطلاقا من جزئية المراجعة لكل ماهو متاح لدى المراكز القديمة وتقليبه على وجوهه العديدة، وما كان لها أن تحقق مزاحمة أو سبقا دون الاحتماء والإيمان بحتمية المراجعة.

الخميس:

الاتهام وسيلة للتطهر والتعافى

يزعجنى جدا أن يقوم شخص ما كان متهما إلى درجة تشبه اليقين، بإلقاء الاتهام ذاته على آخرين، وكأن فى إلقاء ذلك الاتهام إحساسا بالبراءة، ويقينا بالتطهر، وتعافيا ظل يراوده لسنوات طويلة. فمن خلال المحاولات التى كان يمارسها الأساتذة الكبار إخلاصا لود قديم أو تفعيلا لفكرة وقيم الأبوة التى أحس بها كل مراقب ومتأمل، أدركنا جميعا مدى وطبيعة الأزمة التى يمرّ بها هذا الشخص، فهناك إصرار على الوجود، وإصرار على المشاركة وإثبات الفاعلية فى كل محفل. وكل ذلك مشروع ومقبول بوصفه وسيلة للاحتماء والاستقواء، ولكن الشيء غير المشروع أن يتحول ذلك اللهاث نحو التعافى وتجميل الوجه وتنظيف الصحيفة إلى محاولة إلصاق التهم بالآخر بالباطل، وإثبات غير الموجود جملة وتفصيلا، خاصة إذا كان هذا الآخر مشهودا له بالكفاءة، بل - ويعد من وجهة نظرى ونظر الآخرين- فوق مستوى الشبهات، ولا أتصور أن لديه مشكلة أو غضاضة فى الإشارة إلى عكاكيزه والتوجيه نحوها إذا كانت موجودة حقيقة.
أتصوّر أن الإنسان إذا تعرّض لموقف كهذا- إن كان مظلوما- يصبح متريثا إلى حد بعيد فى إلصاق التهمة بآخرين، يكفى أن ندرك أنّ المظلومين الذين طالتهم مثل هذه الشائعات ربما يبيتون أياما وليالى تنام أجسادهم وخلاياهم، ولكن عقلهم يظل متيقظا حذرا يتعاظم على النوم والراحة. الغريب أن يكون سلوك الآخرين الذين ليس لديهم باب واسع وكبير للتفلت من التهمة أو من سقطات الكبار مرتبطا بهذا المنحى المتهافت، والغريب أيضا يرتبط بكونهم لم يتعلموا أو يحملوا –بالرغم من الرفقة الطويلة- شيئا من صفات وشيم الكبار.
كلية دار العلوم- جامعة الفيوم