يوميات الأخبار

عزف على أوتار الفقد

إيهاب الحضري
إيهاب الحضري

ميراث الأسرار قد يهدّد سُمْعة الآلاف بعد رحيلهم، لأنه سوف يكشف فضائح مُدوّية أخفوها خلال حياتهم، بمساعدة كلمات السرّ!

سكْتة إليكترونية!

الأربعاء:

إثْر سكتة قلبية، رحل عن عالمى ليُخلّف وراءه طاقة حُزن. يحتفظ موت الفجأة دائما بأحاسيس أشدّ صعوبة، لأن الحدث الخارج عن التوقعات أكثر تأثيرًا. يتداعى شريط الذكريات واستحضر مواقف ربطتْ بيننا، فيزيد الحنين إحساس الوجع، خاصة أنه أخذ معه ميراثًا ثقيلًا من المراسلات، وأقفل نهائيًا أبواب خزائن لم تعُد صالحة للتداول بمجرد كتابة شهادة وفاته. رحم الله «إيميلى» الفقيد!

شعور الفقْد ليس جديدا، فقد سبقه أخٌ له قبل سنوات طويلة. كان ضحية جريمةٍ ارتكبها خبير، وفشلتْ كل محاولات إنقاذه لأن الجانى خاطفٌ مُحترف، سلبنى بريدى الإليكترونى على الهواء مباشرة، خلال حوار على موقع «ياهو». فاجأنى اللص برسالة يطلب فيها التعارف، وسرعان ما عاجلنى بعباراتٍ تؤكد أنه اقتحم «الإيميل» الخاص بى، وبدأ يستعرض أمامى بعض محتوياته. حاولتُ إطالة الحديث معه لشغْله وتغيير كلمة السر. كان واعيا لذلك وارتسمت ابتسامته الشامتة فى خيالى، عندما طلب منى وقْف محاولاتى لأن بريدى أصبح فى حوزته!

اليوم جاءت التجربة مختلفة، فقدْ قرّرت إدارة «الياهو» أن تسلبنى البريد الذى استمر معى لسنوات. سوء النية ظاهرٌ بدليل أننى طلبتُ إجراء مراجعة على رقم هاتفى، وانتظرتُ «الكود» السحرىّ فلم يصلنى رغم تكرار المحاولات. الإدارة منحتْنى بعدها خيارا وحيدا، هو استخدام «إيميل» قديم جدا، تركتُه وديعة عندها ونسيتُ كل ما يتعلق به بعد ذلك. المهم أن بريدى الإليكترونى ضاع إلى الأبد، بما يحمله من مراسلات عمرها أعوام. 

ظللت وفيا لـ«ياهو» رغم تحريض الأصدقاء لى على هجرته، بعد تقادُم إمكاناته مقارنة بتطبيقات أخرى. رفضتُ الاستجابة لمحاولاتهم لإن العِشْرة لا تهون. الآن عرفتُ خطئى وقررتُ اللجوء إلى «جى ميل»، لعله يكون أكثر وفاءً.

خدمات ما بعد الموت!

الإنسان حيوانٌ عاقل.. يُتقن تصنيع الذكريات، ويُدمن الحنين إليها. قديما كانتْ ترتبط بالأماكن والبشر فقط، غير أنها امتدتْ إلى العوالم الإليكترونية، ربّما لأنها محاور ربْطٍ بأرواحٍ أخرى، منها شخصيات حقيقية وأخرى مصنوعة وفقا للأهواء. فى كلّ الأحوال تصير كائنات حيّة تتوارى وراء حروفٍ صماء، وأقنعة مزيفة تُخفى حقيقة أصحابها. فى النهاية تحالفتْ هذه الكائنات لخلْق فضاء بديل سحقتْنا جاذبيته، وفرَضَ سطوته علينا بعد أن ظنّنا فى البداية أننا من قمنا باستيطانه. وهكذا أصبح اختفاء أحد مفرداته فُرصةً إضافية لمعايشة فقْدٍ جديد!

ذات مغامرة صحفية، قررتُ الكتابة عن المقابر الإلكترونية. أعنى ملايين الحسابات التى فقدها البشر، نتيجة نسيان كلمة السر أو اقتحامٍ من قراصنة الإنترنت، وأحيانا نتيجة إجراءات ديكتاتورية من مواقع، قرّرتْ إداراتُها أن مالكى الحسابات غير جديرين بالانتماء إلى جنّتها. هناك  حسابات أفلتتْ من كل هذه المصائر ذات المذاق المأساوى، غير أنها عالقة فى الفضاء المجهول نتيجة وفاة أصحابها. أغلقتْ كلّها أبوابها على حكايات مجهولة، وصارتْ خزائن أسرارٍ لن تبوح بخفاياها إلى الأبد. 

وقتها كتبتُ: يُعتبر الميراث واحدًا من أكثر تفاصيل الموت حضورا. يغيب الميت ويبقى ميراثه محورا لاهتمام المحيطين به. لكن الحسابات الإلكترونية لم تُصبح بعدُ جانبا أساسيا من الترِكة، رغم أنها تضمّ معلوماتٍ وربما إبداعات وأسرارا، والأهم ذكريات يرغب من يمتلكون قدرا من الوفاء فى الاحتفاظ بها، تماما مثلما يودّ البعض أن يحتفظوا بصورة أو قطعة ملابس أو منزلٍ يضم مقتنيات راحل عزيز عليهم. وتساءلتُ: لماذا لم تدخل الحسابات والبريد الإليكترونى حيّز التركات رغم أهميتها؟

سؤال عبثى لكن الغريب أنه وجد من يهتمّ بالإجابة عليه، وأكدّ أحد الخبراء أن هناك مواقع تقدّم خدمات ما بعد الموت! وتُتيح للورثة الحصول على الترِكة الرقمية، إذا قدّموا شهادة وفاة رسمية للمستخدم وأثبتوا قرابتهم له. وقتها شعرتُ بالراحة، غير أننى الآن أصبحتُ أكثر نُضجا، وأدركتُ أن ميراث الأسرار قد يهدّد سُمْعة الآلاف بعد رحيلهم، لأنه سوف يكشف فضائح مُدوّية أخفوها خلال حياتهم، بمساعدة كلمات السرّ!

راهب الآثار الإسلامية!

السبت:

غالبا انطلق اللقاء الأول من منصة الراحل الكبير جمال الغيطانى. عاملٌ مُشتركٌ جمع ثلاثتنا هو حبّ الآثار، مع فوارق العُمر وسنوات الخبرة، بمجال كان مليئا بالمعارك فى ذلك الزمن البعيد. عشقُ التراث ليس حِكْرا على أحد، وللناس فيما يعشقون مذاهبٌ، وأساليبُ مُختلفة فى التعبير عن الحب.

اختار الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل الأسلوب الأكثر ملاءمة لشخصيته، واستخدم فى كلّ معركة سلاح المعلومات، الأشبه بقوة ناعمة يدعم تأثيرها هجماتنا الصاخبة. وها هو يرحل اليوم بهدوء ليتخلص من آلامٍ استمرت لأسابيع مضتْ. رحم الله راهب الآثار الإسلامية.

فى أحوالٍ عديدة فقدت المراجع أهميتها. لم أعُد أحتاج إليها فى ظلّ احتفاظ الدكتور حسام بذاكرة استثنائية، تتمتّع بطزاجة يرويها شغفه بالتراث. أتوجه له بالسؤال، عندما أعجز عن العثور على معلومة فى كتاب، فيردّ على الفور دون تفكير.

معلوماته كأستاذ للآثار الإسلامية بجامعة عين شمس، تمتزج بحكاياتٍ تُضفى على المادة الجافة حيوية مُتفرّدة، ويُصبح الحديث عن الحجارة ليّنًا بشكل عجيب، ووسط كلِ ذلك يكشف لى عن مراجع، بعضها لم يعُد موجودا إلا فى مكتبته.

يعدنى بالبحث عنها على أرففٍ شغلتْ حوائط بيته فى حلوان بالكامل، ويعتذر عن تأخيره المُتوقع فى العثور عليها، بضعف ذاكرةٍ جعله لا يستطيع تحديد مكانها بدقّة.

أفاجأ بمكالمة بعد أقلّ من ساعة. قبل أن يُصرّح، يزفّ لى صوته المُبتهج البُشرى، وأعرف أنه عثر على ضالته وسط غابات الأوراق. أحيانا كانتْ بهجته تفوق فرحى، ومع الوقت أدركتُ أنه يشعر بالسعادة لأن ذاكرته تحتفظ بشبابها وسط أمراض تحتل جسده.

يُشعل سيجارته وأحسّ عن بُعدٍ بجذله وهو يسحب أول أنفاسها، ويبدأ فى إملائى المادة المطلوبة دون ضيق. بعد ظهور «واتس آب» حرمْتُه من تلك اللذة، وكنتُ أطلب منه أن يُصوّر الصفحات ويرسلها لى، ليس فقط لأتجنّب عناء الكتابة السريعة، بل أيضا لأحتفظ بنسخٍ من أوراق نادرة.

كان يُفترض أن يرى هذه الكلمات وهو فى سرير المرض، لعلّ مشاعر محبّيه تدفع عنه بعض الألم، وتبعث الأمل فى جسده المنهك، لكنّ قضاء الله حلّ قبل أن نكشف له عن مدى حبّنا له. بالتأكيد هو يعلم ذلك، لكنّنا بخلاء فى البوح بمشاعرنا، نتذكّر ذلك كل فراقٍ ونعاهد أنفسنا بعدم تكرار الخطأ، ثمّ نُعاود ارتكاب الخطيئة نفسها فى حقّ آخرين. 

الحرمان من الشوكولاتة

الإثنين:

الطقس يمارس جنونه، ويسلب من الربيع اعتداله. يبدو أنه قرّر هدم الحواجز بين الفصول، غير أنه يوزّع طقوس تطرّفه بعدالة على سطح الكوكب: سيولٌ فى دبى، فيضانات فى أنحاء عديدة من الكوكب، ولهيبٌ فى مصر يجعلنا نتوقع صيفا بمذاق النيران. الحرّ يُفقدنى القدرة على التركيز، فأتراجع بكرسى مكتبى لأمنح نفسى وقتا مستقطعا من العمل. تطل الصفحة الأولى لعددٍ من جريدة الأهرام عمره أيام. «العالم مهددٌ بالحرمان من الشوكولاتة».. يجتذبنى العنوان رغم أننى لستُ من عشاق هذا النوع من الحلوى. لن أشعر بالفقْد إذا انقرضتْ غير أننى أشعر بالتعاطف مع الملايين من مُدمنيها. حاولتُ الهروب من الحرّ بقراءة الخبر الطريف، اكتشفتُ أن الأحوال المناخية القاسية فى مراكز زراعة الكاكاو هى السبب فى انكماش الإنتاج العالمى، مما رفع أسعار المادة الخام المستخدمة فى صناعة الشوكولاتة بشكل هائل، لدرجة أن كبار منتجيها يوشكون على إغلاق مصانعهم. 

جنون درجات الحرارة جريمة ارتكبها البشر، فأضافوا للقوائم فقيدة محتملة.. هى الشوكولاتة!

للكتاب أيضا يومه العالمى

الثلاثاء:

«اليوم العالمى» أصبح مُملا بالنسبة لى. فقد تزايدتْ هذه النوعية من المناسبات بدرجة مبالغ فيها. لا أنكر أننى أنجذب للغريب منها وأحرص على معرفة السبب وراء إطلاقها. يحدث هذا قليلا وسط زحام أيامٍ صارتْ تضيق بتقاليعنا، لكنّ المناسبة هذه المرة مُختلفة، تكتسب فى منطقتنا العربية مذاق المفارقة. 
23 أبريل.. اليوم العالمى للكتاب. بطبيعة الحال لا يمكن تفويت الفرصة دون الوقوف عندها. خاصة أن عُشاق الورق يتناقصون، حتى أصبحت القراءة هواية مهددة بالانقراض. المبدعون صاروا أكثر من القرّاء، والناشرون يصرخون من قلّة المبيعات، والغريب أن عددهم يتزايد ونشهد سنويا ميلاد دور نشرٍ جديدة، وصدور آلاف الكتب أغلبها روايات، لكُتّابٍ منزوعى الموهبة، غير أنهم قادرون على الدفْع مقابل النشْر، والمشكلة أنهم ينتشرون بقوة تفوق انتشار المُبدعين الحقيقيين، تماما مثل مطربى «المهرجانات» الذين اجتاحوا الساحة على حساب الطرب الأصيل. عموما لا مجال لمناقشة مشكلاتٍ تحتاج إلى تحليل دقيق، خاصة أننا فى سياق احتفالٍ مهم، والاحتفالات ترتبط بالبهجة لا البكاء على الأطلال.

يستوقفنى سبب اختيار اليوم، لم ينطلق من دافعٍ مُبهج يليق بمناسبة احتفالية، لكنه اعتمد على أن اليوم شهد وفاة مبدعين عالميين فى أكثر من عصْر! لن أستنتج دلالات رمزية، تربط الموت بتراجع قيمة الكتب، فهناك مؤشر آخر أكثر جذبا يستحق التوقف أمامه، هو أن الفقْد حاضرٌ حتى فى احتفالاتنا، وبدلا من أن تنتقى «اليونسكو» يوما يرتبط بالميلاد اعتمدت الرحيل معيارا للاختيار. مجرّد مفارقة تؤكد أن الفقْد أكثر تأثيرا من الحضور، لأن البشر مُغرمون بالحنين إلى الأحلام الضائعة!