فلوس «الطماعين».. لقمة فى أفواه«المستريحـين»

فلوس «الطماعين»
فلوس «الطماعين»

كتبت: علا نافع

الطمع والرغبة فى تحقيق كسب سريع من دون بذل أى جهد هو أقصر طريق إلى النصابين والمحتالين، خصوصا الذين يطلق عليهم حاليا لقب «المستريحين»، ممّنْ يخادعون ضحايهم ويزجون بهم فى شِراك وهم زيادة المال.. هذا التحقيق يحاول الإجابة عن سؤال مهم: لماذا ينخدع الناس فى «المستريحين» ويسلمون لهم كل ما يملكون من مال، وما سر الصنعة الذى يعتمد عليه «المستريح» فى الإيقاع بضحاياه، وكأننا لم نتعلم من التجربة المريرة مع شركات توظيف الأموال؟!

 

فى عام 2015، سقط النصاب أحمد مصطفى وشهرته «المستريح» فى قبضة إدارة مباحث الأموال العامة بعد استيلائه على 53 مليون جنيه من المواطنين مقابل حصولهم على أرباح شهرية، بعد إيهامهم بتوظيف أموالهم فى مجال تجارة بطاقات شحن الهواتف المحمولة، والاستثمارات العقارية، وتجارة السيارات ومع توقفه عن إيداع الأرباح تم القبض عليه. وصدر حكم نهائى ضده عام 2017 بالسجن 15 سنة وإلزامه برد 266 مليون جنيه للمدعين بالحق المدني.


وهكذا انتهت رحلة المتهم أحمد مصطفى خلف القضبان، لكن ظاهرة «المستريح» ظلت مستمرة مع بقاء حُلم الثراء السريع مداعبا مخيلة الكثير من الناس، ليظهر مؤخرًا مستريحون جُدد أبرزهم مصطفى البنك وطاهر الحصاوى، استطاعوا النصب على آلاف المواطنين، وإيهامهم بالثراء والمكسب السريع بحجة استثمار الأموال فى مشروعات مضمونة مستغلين طمع وجهل الضحايا فضلًا عن الظروف الاقتصادية المرتبكة، والغريب أن وقائع النصب تتكرر يوميًا فى عدة محافظات ويتم التسليط عليها إعلاميًا دون جدوى، فالمستريحون باتوا فى ازدياد وتغيرت سيناريوهاتهم فى السرقة والاحتيال.

 

فى الماضى كانت محافظات الوجه البحرى المكان الأمثل لاحتضان هؤلاء المستريحين بعيدًا عن العاصمة، بسبب سفر الكثير من أهالى قرى ومدن هذه المحافظات للعمل فى أوروبا، ما يجعل إقناعهم سهلًا باستثمار أموالهم فى مكسب مضمون لاسيما تجارة الفاكهة والسيارات المستعملة، لكن مؤخرًا تغيَّرت الخريطة وانضمت محافظات الصعيد لقائمة الضحايا وتحديدًا قنا وأسوان، إذ إن تجارة المواشى هى رأس مال الكثير من الناس هناك وملاذهم الآمن فى الظروف الصعبة، وهو ما استطاع النصاب مصطفى البنك إدراكه لينجح فى الاستيلاء على مليارى جنيه برضا تام من ضحاياه ليعيد للأذهان قضية شركات توظيف الأموال التى انتشرت فى حقبة الثمانينيات.

 

اللافت أن الضحايا يتساقطون فى فخوخ هؤلاء المستريحين رغم تباين أعمارهم ومراكزهم الاجتماعية والتعليمية، فالمستريح لا يستثنى ذوى الشهادات العلمية الكبرى، بل يتسارع على إيقاعهم فى شباكه معتمدًا على الكلام المعسول والمقنع، ناهيك بعلاقاته القوية مع شخصيات مهمة فى المجتمع.


وتختلف أساليب النصب باختلاف المحتالين والضحايا، إضافة إلى تغيُّر مؤشرات عجلة الاقتصاد، ومن أبرزها تجارة الأراضى والعقارات، خاصة أن هذه الأسواق يزيد عليها الطلب ولا تتأثر بأى انخفاضات أو ارتفاعات فى قيمة الجنيه، وهو ما حدث فى دمياط حيث ألقت الإدارة العامة لمكافحة جرائم الأموال العامة القبض على المتهم أيمن الباز (48 عامًا) ويعمل نجَّارًا بمركز كفر سعد، بعدما استطاع الاستيلاء على حوالى مليونى جنيه من بعض جيرانه ومعارفه بزعم تشغيلها فى تجارة العقارات، وبالكشف عليه تبين أنه مطلوب فى 31 حكمًا جزئيًا ومستأنفا.

 

وفى المحافظة ذاتها، ظهر «مستريح الفاكهة»، الذى تمكّن من جمع أموال من ضحاياه لامست 10 ملايين جنيه، بزعم توظيفها فى شركات استيراد وتصدير الفاكهة والخضراوات، مستغلًا امتلاكه عدة مزارع خضر وفاكهة، وتم حبسه ثلاث سنوات مع الشغل، وغُرِّم 100 ألف جنيه.
أما «مستريح الذهب» فقد ظهر فى القليوبية، واستطاع إقناع ضحاياه باستثمار أموالهم فى تجارة الذهب، ما جعل أهالى مدينة «قليوب» يسارعون لمشاركته، فجمع منهم أكثر من ثلاثة ملايين جنيه ووعدهم بإرسال مكاسبهم فى مدة أقصاها يومين، ليستيقظ الأهالى على خبر هروبه، حتى نجحت الأجهزة الأمنية فى القبض عليه، وإلى الآن لم يستطع الأهالى استرداد أموالهم.


ولم يختلف الأمر كثيرًا فى الإسكندرية، فقد جرى ضبط شخص اتُهِم بالحصول على مليونى جنيه من أربعة موظفين، بزعم توظيفها واستثمارها فى تجارة مستحضرات التجميل مقابل حصولهم على أرباح شهرية، لكنه توقف عن السداد ورفض رد المبالغ الأصلية.

 

وفى محافظات الصعيد اختلف شكل النصابين والضحايا، إذ اعتمد المستريحون على جدار الثقة الموجود بين الأهالى هناك، بالإضافة إلى بعض رجال الدين الذين ساهموا فى إعطاء شرعية وثقة لهم، وهو ما حدث فى المنيا وتحديدًا مع أهالى مدينتى مغاغة وبنى مزار، عندما خرج عليهم شخص يُدعى «مستر حسين» يمتاز باللباقة والثقافة العالية، ونجح فى كسب ثقة ضحاياه معتمدًا على علاقته القوية بشيوخ وأئمة قرى مغاغة، كما كان لا يكف عن تقديم يد الإحسان للمحتاجين والفقراء، والمساعدة فى تزويج الفتيات اليتيمات، ما سهل مهمته الخبيثة وقدم الضحايا أموالهم طواعية إليه لاستثمارها فى التجارة وتصدير الرخام إلى الصين وهى المهنة التى زعم اشتغاله بها، ووصل إجمالى ما تحصَّل عليه إلى مليار ونصف المليار جنيه، لكنه تحجج لهم بتعثره فى سداد الأرباح وخسارته رأس ماله، ليحبس بأمر من المحامى العام لنيابات شمال المنيا.

 

الكارثة أن هناك نصابين يمارسون طرق الاحتيال علانية حتى الآن، ففى مركزى منيا القمح وبلبيس بالشرقية ظهرت مافيا لتسفير الشباب إلى إيطاليا عبر ليبيا مقابل مائة ألف جنيه، وقد استعانوا ببعض الوسطاء الليبيين الذين يستقبلون الضحايا فى جراجات كبيرة بمدينة بنغازى لحين موعد وصول المراكب التى ستقل المهاجرين غير الشرعيين إلى قُرب جزيرة لامبدازوا الإيطالية، لكن الأغلبية لم يتم تسفيرها، ما جعل الأهالى يلجأون إلى نواب الشعب لتسهيل عودة أبنائهم من ليبيا وسرعة ضبط مافيا النصابين بعد أن نجح أعضاؤها فى جنى أكثر من ثلاثة ملايين جنيه.

 

ويروى لنا مزارع من شبين القناطر إحدى قصص المستريحين هناك، حيث يقول الرجل الذى طلب عدم ذكر اسمه: «ظهر مؤخرًا الكثير من المستريحين الذين يوهموننا بالمكسب السريع واستثمار أموالنا فى عدة استثمارات مضمونة ومنها تجارة الصابون السائل، زاعمين أنها تدر أموالا كثيرة دون الحاجة لاستخراج تراخيص أو الحصول على موافقة من المجلس المحلى وغيرها من التعقيدات الروتينية، ما جعلنى أعطى أحدهم مائتى ألف جنيه هى تحويشة عمري، بعد أن وعدنى بمكسب شهرى»، مضيفًا «بعد مرور أسبوعين أغلق هذا النصاب هاتفه واختفى من القرية، وانتشرت أخبار تفيد استيلائه على ثلاثة ملايين جنيه من أهالى قريتنا وبعض القرى المجاورة، لتبدأ رحلة استرداد حقوقنا بالمحاكم التى لا نعلم متى ستنتهي»!

 

أما (سعيد. ف) الذى يعمل موجهًا بالتربية والتعليم فى مدينة الزقازيق، فيقول: «بسبب البطالة الشديدة التى يعانيها الشباب وندرة فرص العمل، استغل أحد النصابين علاقته القوية ببعض المسئولين وأوهمنا قدرته على تعيين ابنى وأبناء أخى بإحدى شركات الطاقة، وبالفعل دفعنا له 400 ألف جنيه، وبعض الأهالى دفعوا له مبالغ كبيرة نظير إنهاء تراخيص مخابز وبقالات تموينية»، مشيرًا إلى أن إجمالى هذه المبالغ وصل إلى 15 مليون جنيه، استطاع المستريح جمعها من قرى ومدن الشرقية مستغلًا جهل وطمع الأهالي، والظروف الاقتصادية الناتجة عن ارتفاع سعر الدولار.

 

وفى محاولة لفهم سيكولوجية النصاب وكيفية جذبه لضحاياه، يقول الدكتور جمال فرويز، أستاذ علم النفس: «يمتاز المستريح بالأنانية واللامبالاة، وسواء كان رجلا أو امرأة فإنه يمتلك ميولًا استعراضية وقدرة على اصطياد الضحايا بالكلام المعسول والوعود الوهمية دون أن يعبأ بمصير ضحاياه، فكل ما يهمه هو الاستيلاء على أموالهم»، لافتًا إلى أن أغلب المستريحين شخصيات سيكوباتية ونرجسية، مضيفًا «شخصية المستريح تكون نتاج تربية خاطئة فى الصغر، فضلًا عن ذكائه الشديد، كما أن أغلب هؤلاء النصابين يلجأ لتدعيم انحرافاته من خلال عقد علاقات قوية مع رجال دين ومسئولين كى لا يشعروا بالذنب أو وخز الضمير»، وينفى أن يكون الفقر أحد دوافع النصب.

 

تتفق معه الدكتورة هالة منصور، أستاذة علم الاجتماع، فتقول: «المستريح عادة ما يلجأ لتكوين شبكة كبيرة تقوم على خدمته وترويج تدينه ومصداقيته بين الناس للتأثير فى عقولهم وكسبهم فى صفه، فيشيعون أنه رجل خير لا يتوانى عن مساعدة للفقراء، ويبدأ الضحايا فى تصديق تلك الأكاذيب خاصة أن الأرباح الممنوحة تزيد بشكل كبير عن أرباح البنوك وشهادات الادخار.. ويومًا تلو الآخر وبسبب حصول الضحايا على الأرباح بشكل مستمر لمدة شهر أو اثنين، يتحولون هم الآخرون إلى إحدى وسائل الدعاية له، ويقنعون من حولهم بالاستثمار معه»، مؤكدة أن البطء فى تطبيق القوانين هو أحد أسباب انتشار مثل هؤلاء المستريحين.

 

وعن العقوبة القانونية للمستريح، يقول المحامى محمود نوح: «تنص المادة 336 من قانون العقوبات على أن عقوبة النصب على المواطنين تصل إلى ثلاث سنوات سجن كحد أقصى، فيعاقب بالسجن كل من توصل بالاستيلاء على نقود أو عروض أو سندات دين أو سندات مخالصة أو أى متاع منقول وكان ذلك بالاحتيال لسلب ثروة الغير أو بعضها إما باستعمال طرق احتيالية من شأنها إيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو إحداث الأمل بحصول ربح وهمى أو تسديد المبلغ الذى أخذ بطرق الاحتيال».

 

وحول كيفية استرداد الضحايا أموالهم يقول: «يلجأ الضحايا للمحكمة للحصول على تعويض مدنى مؤقت أمام محكمة الجنح، يتم تنفيذه كتعويض مالي، وفى حال امتناع المتهم عن التنفيذ يتم الحجز على أمواله بالبنوك أو ممتلكاته»، مؤكدًا أن بعض هذه القضايا لا تأخذ وقتًا طويلًا ويُبتُ فيها سريعًا.


وللدين رأى حاسم فى هذه القضايا، حيث أكد الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية، أن المستريح يبيع الوهم للناس وينصب عليهم بطرق غير شرعية، فلم يكن صادقًا مع الناس أو أمينًا معهم وهذا إثم كبير.