بين التطرف وفوضى الطرح 

نسرين موافي
نسرين موافي

كان كتاب اللغة العربية يحوي قصة لم أنسها يوماً… الثوب الأزرق.

درس بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ ، يتكلم عن معلمة مخلصة في حب تلميذاتها، و إحداهن تعاني كثيراً من الإهمال فبدأت بالنصيحة ، ثم الطلب و اخيراً الفعل.

طلبت من تلميذتها أن تهتم بنظافتها الشخصية ففعلت الصغيرة ما استطاعت أن تفعله، وطلبت منها أن تحمل رسالة رقيقة لأمها أن تهتم بنظافة ثوبها فلم تفعل، هنا غيرت المعلمة الواقع بفعل واحد.. اشترت لها ثوب غير حياة الاسرة و الحي برمزية جميلة بأن الثوب جميل و الجميع فرح و أحب الجمال و تمني بقائه فأكملوا الصورة من حوله فكل ما يلمس ثوب الفتاه او يراه لابد أن يكون علي نفس مستوي الجمال.

قصة لم تغادرني يوما ، رأيت فيها جمال و تأثير الكلمة و كيف أثرت ، و كيف أثر الجمال الصورة في الروح فتاقت الي المزيد و المزيد لتحاط به و كيف أن اللين رقي و لا يأتي الا برقي مثله.

كم مهول من الجمال يسمو بالروح و يسعدها و كيف لا و الله جميل يحب الجمال في كل شئ حتي النصيحة فقال مخاطباً رسوله … (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).


فالأصل في الأشياء أجملها.. فالنفس تتوق لكل ما هو سهل لين جميل و راقي بطبعها بفطرتها الحقيقية.

يأسرها كل ما هو جميل و راقٍ … في كل شئ ، النظرة ، الرائحة ، حتي الأصوات الجميلة في الآذان يهفو لها قلب الجميع باختلاف عقائدهم.

جميع الحواس ترتاح و تختار الأجمل .. الجميل يشبع العين ، تتسع له الصدور لتمتلئ بالعطر ، حتي الاذن تتوقع للحن و الكلمات الجميلة.. فالرحمة و اللين و الجمال يقربوا الناس و الفظاظة و الفجاجة تفضهم و تغيرهم للأسواء حقيقة لا يمكن انكارها و تتعذب الروح بها.

تتعذب لأن الفجاجة تسود الموقف … كل الموقف علي كل الأصعدة . بل يسود العالم فجاجة في كل شئ ، تحاصرنا من جميع الجهات ، فجاجة و قُبح حتي في عرض الافكار و المشاكل.
 
أؤمن تماماً بأهمية الكلمة … بتأثير الصورة و بسحر الدراما ، بل اني اؤمن أكثر بأنهم جنود الصفوف الاولي  اذا ما اردت تحريك المجتمع في اتجاه معين و تغيير أفكاره ، اسهل الطرق واخطرها لتشكيل وعي المجتمع بالكامل علي اختلاف ثقافاته و اعماره و تعليمه.

تبعث جمل كـ"الناس عايزة كده" السخرية بداخلي فالحقيقة أن الدراما هي التي تحدد المسار و ليس الشارع …هي التي ترتفع بالذوق لا ان ينحط بها و التبرير ان هذا هو الواقع …. اتفق و اختلف معاً ، فالجراءة غير الوقاحة و شذوذ الأفكار و التصرفات ، فإن كان الواقع حقيقي منحط ، و إن كانت مشاكله أخذت شكلاً وضيعاً شاذا فلا يجب أن يُقدم بشكل شاذ أو منحط ، يقدم بشكل راقي بعيداً عن تفريغه من معناه ، أن نري الواقع حتي القبيح منه من خلال مرآة نظيفة ،  و لنا في ذلك امثلة كثيرة شكلت وعينا قديما بل و غيرت أفكار و قوانين بمنتهي الرقي.

فلنا في هذا الوطن مستقبل يتشكل ، اطفال و مراهقين تواقين للجديد ، للغير مألوف ، للتجربة و المغامرة محترفين في الأكثر رواجاً متسابقين في "trends" والشهرة السريعة السهلة.

ولا أذيع سراً ان قولت أن هذا السباق تعدي الصغار ليطال حتي العجائز ، فأصبحت  كل طبقات و أعمار المجتمع تتنافس في الشهرة .

لست ممن يدفنون رأسهم في الرمال و يدعي أن الفضيلة سائدة و ان الشاذ في التفكير و المعاملة و حتي الألفاظ دخيل و قلة ، لأن ببساطة نصف حل المشكلة يكمن أساساً في الاعتراف بوجودها. 

لكن ونحن نعترف بهذة الواقعية دعونا لا نبتذل طريقة عرضها و نبقي علي ستار ضعيف يسمح لنا بحفظ ماء الوجه فلا يصبح الشاذ مألوفاً بل و عادياً ، لأن اعتياد الشاذ يثير الجدل و الكثير من النقاشات حتي تنفذ طاقة الجميع ليعتادوا الشاذ و لا يصدمهم ، تماماً كالعلاج الصدمة .. الا أنه ليس علاج هو تشكيل جديد لهذا المجتمع فالفجاجة في طرح كل الافكار مع عدم طرح حلول علي اي مستوي كارثي …فقط تعرية لكل قاذورات مجتمع قابلها فجاجة في الرفض المؤقت ليتأكد أن انحطاط مستوي المُقدم اثمر في انحطاط اخلاق المتلقي و نافسه ايضا لنخرج من الدراما بخفي حنين و بكثير من الخوف علي مستقبل هذا الوطن بهكذا وعي و تطرف .

وكأن قدر هذا الوطن أن يكون بين شقي رحى التطرف بأنواعه.

يكفي أن نتذكر جميعاً ان كل ما ننتجه سيبقي أثر حتي بعد رحيلنا حتي كلمة تخرج من قلوبنا لغيرنا … و أنه لا ضير بل من المطلوب أن نجسد الواقع بكل مشاكله لكن بطريقة نضمن بها رقي للمجتمع لا انحطاطه أكثر ….و الأهم من كل هذا أنه مع طرح المشاكل لابد أن نقترح الحلول الحقيقية.