لايمكننا ونحن نتحدث عن مشروع للتجديد لنعيد النظر تجاه العديد من المفاهيم الخاطئة التي ترسخت في أذهاننا إلا أن نستلهم عقلاً وروحًا مختلفة، إذا ما أردنا أن نتجنب السقوط في فخ التشدد والتطرف، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال «العقلية الفارقة»، التي ترفض الاستسلام تمامًا للأفكار المعلبة التي يتم تسويقها عن الدين، والقادرة علي رسم صورة غير نمطية عن دور الدين في الحياة، والتي تستطيع أن تفرّق بوضوح بين الأشياء المتداخلة حتي لو كان بينها خيط رفيع، وتعرف الفارق بين الثوابت والمتغيرات، حتي لاتفهم الدين علي نحو خاطئ، أو تحكم علي الأشياء بصورة خاطئة.

وتشتد حاجتنا لذلك الآن أكثر من أي وقت مضي، بعد أن ظهرت نزعات التطرف نتيجة الفهم الخاطئ للدين، الناجم عن الخلط في القضايا المرتبطة به، فالبعض يخلط بين القرآن وتفسيره، وينظر إلي التفسير كنص مقدس، علي الرغم من الفارق الواضح بينهما؛ فالأول مصدره هو الوحي الإلهي الذي نزل علي محمد صلي الله عليه وسلم، أما كتب التفاسير المتعددة فهي جهد بشري، فيها من الاختلافات في الرؤي ما يؤكد لذلك.
حقيقة لم تكن هذه الإشكالية (خلط الأشياء) موجودة لدي العقل المسلم قديمًا، إذ كان هناك فقهاء ومفكرون كبار، يتميزون بما يسمي بالعقلية الفارقة القادرة علي تمييز الأشياء من بعضها حتي لو بينها خط دقيق، أمثال الشافعي والغزالي، وقبلهما عمر بن الخطاب، الذي يعد النموذج الأبرز للعقلية الفارقة في التاريخ الإسلامي، وقد سماه النبي صلي الله عليه وسلم بالفاروق «يفرق بك الله بين الحق والباطل»، أي الذي يمتلك عقلية فارقة.
هناك 3قضايا دينية أساسية وضرورية تتطلب بشدة وجود عقلية فارقة، يأتي علي رأسها ضرورة أن نفرق بين الدين والتدين، وألا نربطهما ببعض، لأن بين الأمرين اختلافًا كبيرًا، فالدين علم يشتغل به متخصصون «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، والتدين مطالبون به جميعًا في حياتنا، لكن ذلك لايعني أن كل متدين عالم في الدين، أو يصلح للإفتاء، أو يصلح بالضرورة لتقلد منصب سياسي لمجرد أنه متدين.
وهناك في تاريخنا الإسلامية العديد من الأمثلة علي شخصيات كهذه، أبرزها الصحابي أبو ذر الغفاري، فعلي الرغم من أنه كان من أشد الصحابة تدينًا، إلا أن النبي رفض توليته حين أتاه، قائلاً: «يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده علي منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها».
القضية الثانية، هي ضرورة التفرقة بين القضايا الكبيرة والمسائل الصغيرة، فالإيمان ليس درجة واحدة، فالنبي الكريم يقول: «الإيمان بضع وستون شعبه أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذي عن الطريق»، وقضية الإسلام هي الأخلاق «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، لكن البعض يؤدي إلي تغيير في ترتيب الأولويات، وينشغل بقضايا ليست ذات أهمية.
وفي حين نهمل قيمة العمل ـ علي سبيل المثال ـ رغم أنه ورد ذكره في القرآن 180مرة، نجد أنفسنا مشغولين بالحديث في قضايا جزئية نهدر وقتًا طويلاً فيها، مثل الجن والعفاريت، أو إرضاع الكبير، فلابد أن نراعي الأوزان النسبية لموضوعات الدين، فهناك أركان وفرائض وسنن ونوافل، حتي الذنوب فيها كبائر وصغائر.
والأهم أن يكون لدينا العقلية الفارقة التي تستطيع أن تفرق بين «زمن النبي» الذي عاش فيه وبين «حياة النبي»، متمثلة في أخلاقه وأفعاله، فالزمن هو كل ما يتعلق بمظاهر الحياة وقتها من أكل وشرب وسكن ولبس ونقود وأنظمة وعادات وتقاليد، دون أن يعني أن نرفض أي تطور في نمط الحياة باعتباره «خروجًا علي منهج النبي»، كما حصل عندما دخلت الميكرفونات المساجد في أواخر القرن 19، بكي مصلون وخرجوا من المسجد مسرعين لأنه «بدعة مخالفة لما فعله النبي» وحين دخل الميكروفون الحرم المكي حصلت ثورة في القاهرة، خرج رجل من المسجد باكيًا وهو يقول: «أخرجتمونا من المساجد.. قاتلكم الله».
وليس كل بدعة بالضرورة ضد الدين، كما يفهم البعض، فالبدعة هي مخالفة الشريعة وليس كل ما يتعلق بتطوير الحياة وأدواتها، ومن يريد أن يعيش في عصر النبي، فإنه يخالف نواميس الكون، وإرادة الله في التغيير «كل يوم هو في شأن»، «ويقلب الليل والنهار»، وكأنه يقول إن الإسلام لا يصلح لكل زمان ومكان، فهل يمكن في هذا العصر أن نواجه الدبابة بالخنجر، أو نمنع رصف الطرق، واستخدام السيارة، وعدم استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة: كمبيوتر، هاتف محمول، تليفزيون، راديو، وغيرها، بزعم أن ذلك لم يكن موجودًا في عصر النبي.
لدينا نموذج عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، الذي لم يتوقف عند عصر النبي، بل عمل علي تطوير أدوات الحكم وإدارة الدولة في عهده بعد أن توسعت رقعتها عما كانت عليه في عصر النبي، وكان لايوجد نظام لإدارة دولة عظمي فاستحدث ما يعرف بـ «الديوان»، وهي كلمه فارسية معناها النظام، فأخذ النظام الإداري الفارسي وطبقه في الدولة الإسلامية، ولم يكن يفعل ذلك إلا لكونه عقلية فارقة.
وعندما دعا إلي صلاة التراويح في المسجد للمرة الأولي، أخذ حياة النبي في منهج جمع الناس علي الخير، وأقرض من بيت المال للمشروعات الصغيرة، وكانت أول من استفادت من ذلك هند بنت عتبة. مؤكد أن النبي لو كان بيننا في هذا العصر الجديد لكان عاش وفق آليات عصره، ولكان عاش بطريقة حياته، لن يتخلي عن الرحمة، الكرم، العبادة، وتعلق القلب بالله، لكنه كان سيعيش عصره. في النهاية: لا بد من عودة العقلية الفارقة للمجتمع، لأنها تحقق التوازن العقلي والتفكير المستقيم.