القرآن هو دستور أخلاقي بعث الله به نبيه صلي الله عليه وسلم إلي الناس أجمعين، وهو الهدف من رسالة معلم البشرية ومخرجها من الظلمات إلي النور الذي مدحه الله في كتابه «وإنك لعلي خلق عظيم»، والذي شهد له الجميع بمن فيهم أعداؤه الذين حاربوه بطيب أخلاقه وصدقه وأمانته، فأرسله الله إلي الناس حاملاً كل قيم الخير، وعلي رأسها الأخلاق، «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ليقول لنا إن تلك هي الغاية الأسمي من رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين.
فالعبادات في الإسلام هدفها بناء الأخلاق في نفس الإنسان؛ وعلي سبيل المثال فإننا إذا ما تعاملنا مع الصلاة علي أنها عبودية لله فقط، فإننا لا ندرك الغاية والهدف منها وهو أن يمتد أثرها علي الأخلاق.. فأداء الصلاة يسقط عنك الفرض لكنه وحده لا يقيم فيك البناء النفسي الذي أراده الله من تكليفك بالصلاة، فإذا جمعت بين الحكمتين وصلت لعمق وقيمة الصلاة.
ويتضح ذلك الهدف في قول الله تعالي: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَي عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ»، وفي الحديث «لا صلاة لمن تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر»، ويقول الله: « وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ»؛ أي استعينوا علي مواجهات الحياة وتحدياتها، وقد ورد في الحديث «إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل علي خلقي، ولم يبت مصرًا علي معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب».
لذلك علي كل منا، و علي الأب خاصة عندما يسأل ابنه: هل صليت اليوم؟، أن يسأل أيضًا عن دليل وأثر صلاته.. ما الدليل: هل رحمت أمي.. هل أمسكت غضبي.. هل رحمت ضعيفًا؟
ليست الصلاة فحسب، بل في الصدقة أيضًا.. يقول الله تبارك وتعالي: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا». فإن هدف الزكاة هو التزكية، ومعني التزكية هو التربية علي حُسن الخلق. أرأيت كيف أن الزكاة هدفها أيضًا أخلاقي؟ فإن من يتصدق سيتعلم الرحمة وسيتعلم الكرَم.
والتصدّق لا يكون بالمال فقط.. هل سمعت من قبل عن الصدقات الأخلاقية؟ إنها صدقات لها مذاق خاص. يقول النبي: «تَبسُّمك في وجه أخيك صدقة». إننا في حاجة إلي فهم أحاديث النبي من جديد. إننا نحفظ هذا الحديث عن ظهر قلب. ولكن، هل نستشعر معناه؟ هيّا لا تبخل بالابتسامة، وتصدَّق.
والصوم أيضًا.. يقول النبي: «إذ كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سَابّه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم». وتصل الأخلاق إلي ذروتها في الحج. يقول الله تبارك وتعالي: «الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج».
إن الحج تدريب قاسٍ علي انضباط الأخلاق، فإذا وفقك الله لأداء هذه الشعيرة، فكن حريصًا كل الحرص علي حُسن الخلق.. لا تتكلم بصوت عالٍ، ولا تشتم أحدًا، ولا تسب أحدًا، ولا تظلم أحدًا، بل تبالغ وتزيد في المبالغة لتحسين خلقك. ستمكث هناك 20 يومًا تقريبًا في انضباط كامل.
وإذا كان من الواجب علي كل منا أن يراعي حقوق الله وواجباته، فإن مراعاة حقوق العباد لا تقل عنها.. بل إن الله عز وجل يسامح في حقوقه، لكنه لا يسامح في حقوق العباد.. فالأزمة ليست أزمة تدين وصلاة وصوم ولكن أزمتنا أزمة أخلاق.. أمة الصادق الأمين هي الآن تحتاج إلي أخلاق الصدق والأمانة.. من يقول إن مشكلة الأمة غياب التدين مخطئ لأن مشكلة الأمة هي غياب الأخلاق.
وفي حين نتغافل عن هذه المعاني السابقة، فإن القرآن الكريم شدد عليها وتحدث عنها في أكثر مواضعه، ليؤكد لنا: أنه لا دين بدون أخلاق.. فمعظم آيات القرآن تدور حول الأخلاق، إذ تبلغ عدد آياته 6236 آية، منها 300 آية فقط؛ أي 5% من آيات القرآن تتعلق بفقه المعاملات والأحكام، بينما 95% من الآيات أخلاق مرتبطة بالعقيدة، وهو ما يوضح لنا القيمة العظيمة للأخلاق، وأنها أصل الدين ومحور رسالة الإسلام وغايته العظمي.
ومن خلال حصر آيات الأخلاق إجمالاً في القرآن، يتبين أن عدد الآيات التي تدور حول أوصاف الذم للأخلاق السيئة (247 آية مكية - 171 آية مدنية)، المحرمات الأخلاقية (33 آية مكية - 47 آية مدنية)، المدح الأخلاقي (64 آية مكية - 66 آية مدنية)، الفطرة السليمة (26 آية مكية - 4 آيات مدنية)، الأخلاق الحسنة (67 آية مكية - 91 آية مدنية)، الدعوة للأخلاق عمومًا (209 آية مكية - 80 آية مدنية). وتبلغ إجمالي الآيات الصريحة والضمنية 620 آية مكية، و455 آية مدنية.
منظومة الأخلاق في القرآن مبنية علي أسماء الله الحسني، والتي يصل عددها في القرآن إلي 152 اسمًا وفي السُّنة 164 اسمًا، وفي كليهما بعد حذف المكرر 220، وكلها تدور حول ثلاث صفات هي: الجمال والكمال والجلال.
ولكل منها وظيفة.. الجمال: وظيفته التخلق أي التخلق بصفات الله... مثل اسم الله الكريم - الرحيم - العفو - الستار- الحليم، لذلك تجد دائمًا الأخلاق مربوطة بالجمال فهي مربوطة بأسماء الله الحسني. الكمال: وظيفته التصديق... مثل اسم الله كالحياة والعلم والسمع والبصر. الجلال: وظيفته محبته والتعلق به... مثل اسم الله العظيم والعزيز والقوة والقدرة.
والله يحب أسماءه وصفاته ويحب المتعبِّدين له بها، ويحب من يسأله ويدعوه بها، ويحب من يعرفها ويعقلها ويُثني عليه بها ويحمده ويمدحه بها، كما في الصحيح « لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك أثني علي نفسه... ».
ولمحبته سبحانه لأسمائه وصفاته أمر عباده أن يتخلقوا بصفاته، فأمرهم بالعدل والبر، والعفو، والجود، والكرم والصبر، والمغفرة، والرحمة، والصدق، والشكر، والحلم، ولما كان سبحانه يحب أسماءه وصفاته كان أحب الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهها.
ومن ثمرات معرفة أسماء الله الحسني أن أعرف الناس بأسماء الله وصفاته أشدهم حبًا له، فكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته تستدعي محبة خاصة من العبد لربه فإذا اتصف بها استمد محبة خاصة من الله له. فبذلك فإن الأخلاق أكبر دليل علي الإيمان وعلي محبة الله