أحداث هذه القصة كلها حقيقية وبطلها مازال حيا يرزق ويعيش في حي منشية النور بمدينة بنها، ومازال الناس ينادونه بعم جورج بعد أن اقترب سنه من السبعين، وهو يعتبر النموذج الصافي والحقيقي لمعدن الشعب المصري وحكايته تدحض كل الأكاذيب والدعاوي المغرضة التي حاول أعداء الوطن ترويجها بأن في مصر فتنة طائفية.
عندما قال البابا تواضروس الثاني بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية نريد وطنا بلا كنائس ولا نريد كنائس بلا وطن،وعندما قال أيضا لو احترقت كل الكنائس فسوف نصلي في مساجد المسلمين.. وعندما قال الراحل البابا شنوده مصر ليست وطنا نعيش فيه وإنما وطن يعيش فينا..لم يكن الرجلان يجاملان سلطانا أو يتملقان شعبا أو أحدا إنما قالا الحقيقة التي لا يمكن لأي أحد جحدها أو إنكارها،والأمثلة كثيرة ولكنها ربما لم يكتب لها الإنتشار لأن البعض يعتبرها شيئا عاديا وفطريا وجزءا من قيم وأصالة وروح الوحدة بين المصريين ورباطهم المقدس الذي وحد صفوفهم عبر التاريخ، من هذه النماذج المضيئة حكاية العم جورج، ولكن قبل ان ندخل في تفاصيلها دعوني أذكر لكم تجربة شخصية مماثلة مررت بها وكنت في مرحلة الصبا: بني والدي رحمه الله مسجدا أطلق عليه اسم مسجد خالد بن الوليد ما زال قائما حتي اليوم وسمي الشارع الذي يقع فيه باسمه نظرا لانه أول بناء أقيم في ذاك الحي الذي كان يعرف باسم «عزبة السوق» ثم تغير إلي منشية النور.. كان ذلك في النصف الأخير من الستينات وكانت كل البيوت حول المسجد حديثة بعضها تم بناؤه والآخر تحت التشطيب وحدثت موجة تهجير لأهالي مدن القناة بعد النكسة وزاد عدد المهجرين في الحي الجديد وسكنه معظمهم.لم يكن بناء المسجد قد اكتمل فقد بقيت مواسير المياه ظاهرة علي الجدران والحوائط التي لم تكن تم تغطيتها باسمنت المحارة، وكذا كانت أسلاك الكهرباء مكشوفة لم يصلها التيار، فالبناء استغرق وقتا لعدم وجود تبرعات له وحرص القائم علي بنائه علي عدم طلب أو قبول التبرعات خاصة في مرحلة الإنشاء، لم يكن للمسجد حارس أو خفير يمنع عنه اللصوص وفجأة ظهر رجل عجوز تولي حراسة المسجد متطوعا، كان يقضي النهار مفترشا الحصي في فناء المسجد يذب عنه المتطفلين من اللصوص والعابثين من الأطفال الذين لا يكفون عن نزع مواسير المياه وسحب الأسلاك الكهربائية من مكانها والعبث بكل شيء ببراءة الطفولة وعقلية الصغار، وعندما يجن الليل يختفي الحارس العجوز ليظهر مع ضحي اليوم التالي، ظل الرجل الذي عرفه الجميع بعم عبده يتولي حراسة المسجد لأكثر من عامين حتي اكتمل البناء وتم افتتاح المسجد في يوم جمعة وبحث الناس عن عم عبده الحارس المتطوع متوقعين أنه سيكون في مقدمة الصفوف لكن أحدا لم يره، توجه عدد منهم بعد الصلاة الي المنزل الذي يسكنه عم عبده ظنا أنه مريض فوجدوه في أحسن صحة وأطيب حال وقبل أن يسأله أحد عن عدم حضوره صلاة الجمعة وافتتاح المسجد بادرهم معتذرا.. أصل أنا مسيحي.. نعود إلي حكاية العم جورج.. وهو رجل نحيف الجسد حاد النظرات هادئ الطباع قليل الكلام نادرالصداقات تراه مبتسما دائما لا يتدخل في شئون أحد ولذا هو محبوب من الجميع، هوايته منذعشرات السنين شراء المنازل القديمة في المناطق العشوائية والعمرانية الجديدة واخلاء المسكون منها بعد تعويض السكان ثم إجراء بعض التعديلات علي الواجهة وطلاء الجدران ثم إعادة البيع، وتلك كانت تجارته الرابحة التي وفرت له رصيدا من المال أخفاه في خزائن الصبر وعدم التعجل في البيع ولا في الشراء، وهذا الثراء لم يجعله يخلع جلباب التواضع الذي عاش فيه سنوات عمره وسط أهله وجيرانه، لم يشتر سيارة فارهة لنفسه تنقله حيث يشاء وأكتفي بأن يراه الناس كما عهدوه ماشيا علي قدميه،حتي عندما كبر أبناؤه وتخرجوا في الجامعات وفر لكل واحد منهم شقة وسيارة حديثة وساعده في الزواج، لكن الرجل فعل شيئا عجيبا قرر أن يترك التجارة مع البشر ويتجه للتجارة مع الله.. إتجه للاستثمار في الأراضي الصحراويه.. اشتري مزرعة في البحيرة مساحتها تزيد عن العشرين فدانا، وهذه المزرعة تقع علي طريق من الأسفلت وقد زرعها صاحبها «المسلم» بأشجار المانجو والبرتقال واليوسفي واستلمها العم جورج مثمرة كما أنها كانت تضم مسجدا تحت الإنشاء، وعند البيع قال البائعون المسلمون للمشتري المسيحي نخصم مساحة المسجد والأرض الفضاء التي تحيط به من الثمن الإجمالي للمزرعة لكنه رفض بشدة بل وعدهم أنه سوف يكمل بناء المسجد علي نفقته حتي تقام فيه الصلوات بل انه استأجر خادما مسلما للمسجد ظل يشرف علي عمليات التشطيب حتي اكتملت وتم في يوم جمعة افتتاح المسجد للصلاة وأمر جورج خادم المسجد بأن يترك أبوابه مفتوحة طوال النهار وحتي تنتهي صلاة العشاء لأن عابري السبيل علي الطريق كثيرون ويقصدون المسجد دائما للصلاة، ظل جورج يدفع أجر خادم المسجد وأجر خفير مهمته الإشراف علي طلمبة رفع المياه وصيانة الخزان العلوي لتبقي المياه دائما متوفرة لمن يريد الوضوء. يقول أصدقاء جورج أن المسجد تم تشطيبه بالرخام الفاخر وفرشه بأفخر انواع السجاد وكثر رواده وكان يمتلئ بالمصلين كل صلاة رغم اتساعه وان الله ارسل مسئولا لا يعرفونه صلي بالمسجد وتصادف ان انقطعت المياه لعطل مفاجئ في طلمبة رفع المياه من البئر الإرتوازية فجاء بعدها بقليل قرار بتوصيل مرفق المياه الي المسجد وسرعان ما تحولت المنطقة الي منطقة عمرانية وصلتها الكهرباء وعمرت بتجمعات سكنية جعلت السعر يرتفع إلي عشرات الأضعاف وكلما سألوا جورج قال: تاجرت مع الله فربح البيع.. مساجد، كنائس، معابد كلها بيوت يذكر فيها اسم الله.