منظومة القيم والأخلاق داخل أي مجتمع هي التي تضمن الحفاظ علي تماسكه وتصونه من الانهيار والانزلاق إلي مستنقع الانحلال والتردي الأخلاقي، وهي التي نربي عليها أولادنا سواء في البيت أو المدرسة أو المسجد أو المجتمع عمومًا، وتركز علي مجموعة من الأخلاق مثل: الأدب، الاحترام خاصة الكبير، الطاعة، الانضباط، الصدق والأمانة.
وهذه تسمي بـ «أخلاق البقاء»، لأنها تمثل أخلاق «بقاء» للمجتمع وتحقق صيانة للمجتمع، لكنها أخلاق لا تدفع المجتمع «للانطلاق» نحو قيم الإبداع والإنجاز والتعايش، لأن هذا ليس دورها، إن دورها الحقيقي هو صيانة وحماية المجتمع الناضج المنطلق نحو تحقيق أهدافه.. فإذا جمد المجتمع وسكن في مكانه لن تستطيع أخلاق البقاء دفعه للأمام، بل ولن تقوي أخلاق البقاء علي حمايته وصيانته.
ماهو المطلوب؟
نحن نحتاج لمنظومة أخلاق جديدة مناسبة لاحتياجات شبابنا وبلادنا.. هذه المنظومة سميناها «أخلاق الانطلاق»، ولها ثلاثة أهداف هي: (الإنجاز، الإبداع، والتعايش)، وتتحقق بعشـرة أخلاق هي: «الحب - التسامح - السلام - الرحمة والإنصاف - الإحساس بالآخر- المبادرة والهمة العالية - الطموح - التعاون - الأمل - البساطة». وكل مجموعه من العشرة تخدم هدفًا..
الحب - التسامح - السلام - الرحمة - الإحساس بالآخر: تحقق التعايش.
التعاون - الأمل - الإحساس بالآخر: تحقق الإنجاز.
أخلاق الانطلاق تتضمن أشياء رائعة.. كلها فاعلية وحيوية، مثل تركيبة الدواء، فهي إعادة الفاعلية.
(1) يغذي بعضها بعضًا، ويجيب بعضها بعضًا (سلسلة الساحر)، فلو جاءت واحدة تأتي بالعشرة، فالحب يُولِّد التسامح، وكلاهما يُولِّد الرحمة، والطموح يُولِّد المبادرة، وكلاهما يحتاج للأمل، مما لا يُعطي الفرصة لمثل «داعش» أن تخرج أبدًا، ولن تجعل الملحد لديه حجة علي أن الإسلام ليس إنسانيًّا، بل كله إنسانية.
(2) هي مثل نسيج واحد له ثلاثة أهداف وعشـرة أخلاق، فتنتج شخصية متناسقة مثل لوحة متناغمة الألوان، فهو إنسان مسلم طموح بسيط.. كله تناسق، بعكس أن تربي ابنك دون منظومة مثل لوحة نشاز.. فهو مبادر طموح، لكنه عنيف متطرف في انفعالاته.
(3) هي أقرب للنفس؛ لأنها مرتبطة بالحرية، وليس بالإجبار أو الإكراه، والشاب يحب الحرية، فهذه أقرب فكرة للشباب؛ لأن فيها حرية وعدم تقييد الشباب الغاضب من القيود.. تخيل لو كل الأخلاق التي نكلمهم فيها هي الحب والسلام.
(4) أخلاق منفتحة (حب - سلام - أمل)، وليست أخلاقًا مغلقة تُنتج تطرفًا.
< هل أخلاق الانطلاق لها أصل في ديننا؟
قمت بعمل دراسة عن أخلاق الانطلاق في سيرة النبي صلي الله عليه سلم فوجدت أنها هي أخلاق الرسالة.
< أخلاق الانطلاق هي أخلاق رسالة النبي (في المرحلة المكية):
(1) السنة الثالثة للرسالة: الجهر بالدعوة، ويصعد النبي علي جبل الصفا وينادي علي قبائل قريش ليعلن الدين الجديد. هذا أحد أخلاق الانطلاق (المبادرة والهمة العالية).
(2) السنة الخامسة للرسالة: إسلام عمر بعد دعوة النبي: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَدِ الْعُمَرَيْنِ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ أَوْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ». هذا أحد أخلاق الانطلاق «الإنصاف» فرغم عداوتهما الشديدة لم ينس صفاتهما الجميلة.
(3) السنة السابعة للرسالة: الهجرة إلي الحبشة، واختيار النبي ملك الحبشة المسيحي ليهاجر لبلده المسملون ويمدحه بقوله: «هُوَ مَلِكٌ لَايُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ». (الإنصاف - الإبداع في إيجاد الحلول الذكية للمشكلات).
(4) السنة التاسعة للرسالة: رحلة الطائف. السفر مائة كيلومتر ماشيًا لدعوة أهل الطائف للإسلام! (الأمل - والمبادرة - والهمة العالية).
رفض أهل الطائف للإسلام ورميهم النبي بالحجارة ونزول ملك الجبال ـ عليه السلام ـ يعرض عليه إهلاكهم: «لَوْ شِئْتَ أُطْبِقُ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ».. ورد النبي: «لَا.. عَسَي اللهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ بَيْنِ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ». (الحب ـــ والتسامح ــ والسلام - والطموح).
(5) السنة العاشرة إلي الثالثة عشرة للرسالة: دعوة القبائل للإسلام في موسم الحج ورفض ستة وعشـرين قبيلة مع إصرار النبي حتي وجد ستة من شباب الأنصار في آخر أيام مني وهم يحلقون رؤوسهم في نهاية الحج. (المبادرة - والهمة العالية ـــ والأمل).
< أخلاق الانطلاق في المدينة.. (لقطات):
(1) الهجرة إلي المدينة: خطة الهجرة كلها إبداع، فلم تقدر قريش برجالها وقادتها وأموالها وفرسانها علي الوصول لمكان النبي رغم أنه هاجر وحده مع أبو بكر. (الإبداع).
(2) استقبال الأنصار للنبي عند دخوله المدينة بنشيد طلع البدر علينا. (الحب والبساطة بلا تعقيد).
(3) أول خطبة للنبي عند دخول المدينة: «أَيُّهَا النَّاسُ.. أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ». (السلام والرحمة والإحساس بالآخر).
(4) إعداد دستور المدينة الذي اعترف باليهود كأمة مع المسلمين، وأعطاهم حرية الاعتقاد وممارسة شعائرهم. (المواطنة - التعايش - الإنصاف - السلام - الإبداع لأول دستور يؤمن بفكرة المواطنة في العالم).
(5) غزوة بدر: وتغيير مكان المعركة بناء علي رأي جندي بسيط اقترح مكانًا أفضل من الذي اختاره النبي (تدريب علي الإبداع وعدم التقليد الأعمي).
(6) غزوة أحد: قتلوا عمه وأسالوا دماء النبي وهو يدعو لهم: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».. وسماهم قومه أي أهله، ولم يقل أعدائي أو حتي قريش. (الحب - الرحمة - التسامح).
(7) غزوة الخندق: واعتماد النبي لفكرة جديدة غريبة علي العرب وهي حفر الخندق. (الإبداع).
(8) فتح مكة وعفو النبي عن قريش بعدما حاربوه ما يقرب من عشـرين عامًا ومع ذلك يقول لهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟!» قَالُوا: «أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ».. قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ». (الحب - التسامح - السلام).
(9) إرسال النبي الرسائل لملوك العالم يدعوهم للإسلام. (تعايش).
(10) دعوة النبي نصاري نجران للحوار وإنزاله لهم بالمسجد النبوي ليقيموا فيه، وكتابته عهد أمان لهم رغم أنهم لم يسلموا! (التسامح - السلام - الأنصاف).
< أخلاق الانطلاق من السنة:
- «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ». (السلام). وفي رواية أخري: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».
- «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّي يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». (الحب - الإحساس بالآخر).
- «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَي مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَي لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّي». (التعاون).
- «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ». (الرحمة).
- «الْمُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ سَهْلٌ». (البساطة).
- «يسروا ولا تعسروا.. بشروا ولا تنفروا». (الأمل).
- «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًي مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أَدْهَي وَأَمَرُّ ؟!». (المبادرة).