إذا كان الله عز وجل قد جعل إعمار الأرض «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً» هو الهدف الأعظم من خلق الإنسان، ووضعه علي رأس أولوياته في هذا الكون؛ فإن الإنسان ولا أحد سواه هو المعني بذلك، هو «الخليفة» الذي أوكل الله إليه تلك المهمة العظيمة، وسخّر له الكون بكل ما فيه من أجل تحقيق تلك الغاية، وذلك عندما يحسن استخدام الموارد التي سخرها الله في كل ما ينفع الناس، ولا يستغلها في أية أهداف أخري تؤدي إلي الإضرار بالبشرية، أو تكون سببًا في هلاكها.
وأعظم تلك النعم هو العقل الذي حباه الله لك وكرمك به عن سائر المخلوقات، حتي تميز بين الحق والباطل، والخير والشر، والصالح والضار، أودعه الله فيك كي تفكر وتتأمل في أسرار هذا الكون، الذي ائتمنك عليه خالقه، جعلك الخليفة فيه، إذًا فأنت مُستأمن عليه، أنت خليفة في جسدك وجوارحك، وقواك الظاهرة والباطنة، كلما حسنت أخلاقك صرت المتحقق بمعني الخليفة وعلي ذلك يكون الحساب يوم القيامة.
من أجل هذا جاءت رسالة النبي صلي الله عليه وسلم الذي حمل الدعوة الكريمة العظيمة من رب السموات إلي أهل الأرض، داعيًا إلي هداية البشر، والتحلي بمكارم الأخلاق.. وهو القائل «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». يقول أصحابه: «كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتي بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه».
وما كان لينجح في مهمته العظيمة رغم ما لاقاه من تعنت وإيذاء من قومه، إلا لأنه كان «الصادق الأمين»، كما كان يطلقون عليه في الجاهلية قبل بعثته، خلقه الطيب الكريم كان هو مبعث الحب له والإيمان برسالته «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ».
وكأنه يحدد لنا معالم الطريق حتي نسير علي خطاه، فلا دين بدون أخلاق، ولا أخلاق بغير دين، فالأخلاق هي النافذة التي توصل الإنسان إلي طريقين لا ثالث لهما: إما الجنة أو النار، ونحن من نختار الطريق طائعين ولسنا مجبرين، في كل مرة نحب أو نرحم فيها ندخل الجنة، وفي كل مرة نحقد أو نتباغض فإننا نسقط في نار الجحيم.
الأخلاق في الإسلام تدور حول الهدف من وجود الخلق «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ».. خليفة أخلاقي يعمل لأعمار الكون، لأنه بدون الأخلاق يتحول الإعمار تدريجيًا إلي الإفساد، لذلك ربط القرآن دائمًا العلم الذي هو طريق تقدم الأرض بالرحمة، لأن العلم بلا رحمة يتحول إلي إفساد.
بل إن الرحمة في القرآن الكريم دائمًا تسبق العلم «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا»، «فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا»، فرحمة الطبيب بالمريض يجب أن تسبق علمه ورحمة المدرس بالتلميذ يجب أن تسبق علمه ورحمة الرئيس بالمرءوس يجب أن تسبق علمه وأوامره ورحمة الناس ببعضهم يجب أن تسبق علمهم وتميزهم.
لذلك كان الرسول صلي الله عليه وسلم مثالاً للرحمة وجاءت رسالته رحمة للعالمين يقول سبحانه «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»، «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ».
يتفاوت الناس في دينهم علي قدر تفاوتهم في أخلاقهم؛ فكلما ارتقت أخلاقهم زاد دينهم قوة وزاد إيمانهم حلاوة، وكلما انحطت أخلاقهم نزع منهم معني التدين وصار صورة لا روح لها. أنت صورة لا روح فيها حتي تعيش بالأخلاق فينفخ فيك روح الحياة.
« وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ»، فسرها المفسرون «إنك لعلي دين عظيم»، لأن الدين هو الأعمال الباطنة والظاهرة، والأخلاق هي أصل ذلك كله، ولهذا فسر الخلق بالدين في قوله تعالي: «وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ». وقال الإمام أحمد قال ابن عباس: معني الآية.. إنك لعلي دين عظيم. وسئلت عائشة عن خلق رسول الله - صلي الله عليه وسلم - فقالت: « كان خلقه القرآن».
وسمي الله سبحانه يوم القيامة «يوم الدين» أي اليوم الذي يدين فيه الناس بنتائج أخلاقهم، ولذلك فلن تبلغ من الدين شيئًا حتي توقر جميع الخلائق.
هناك نماذج أخلاقية في عصرنا هذا حري بنا أن نتعلم منها معني الأخلاق، فهذا حاج ماليزي اكتشف بعد عودته من أداء فريضة الحج إلي بلاده وجود حجر في حقيبته من أحجار رمي الجمرات، فأصرَّ علي إعادته مرة أخري إلي مزدلفة، فقام بجلب علبة زجاج بها منظف ونظَّف الحجر وعطَّره ووضعه داخل العلبة، ثم كتب رسالة إلي مدير بريد العاصمة المقدسة، وأرفقها بمبلغ 10 ريالات طلب من مدير البريد أن يدفعها لسائق سيارة أجرة لإعادة الحجر إلي مكانه. هذا هو المعني الذي نقصده لفكرة تحويل الأخلاق من كلام وعظي إلي طريقة حياة.
وهذه قصة حقيقية لبطل رياضي حاز علي الميدالية الفضية في أوليمبياد لوس أنجلوس عام 1984 في لعبة الجودو، وهو البطل العالمي محمد رشوان. هذا البطل الموهوب عندما دخل الأوليمبياد ظل يفوز بكل المباريات حتي وصل للدور النهائي للعب علي الذهبية، وكانت المباراة النهائية مع البطل الياباني الحائز علي الميدالية الذهبية لثلاث دورات متتالية، ولكنه أصيب إصابة خطرة في قدمه اليسري في الدور قبل النهائي وكانت ظاهرة ومعلومة للجميع لدرجة جعلته يتكئ عليها.. أي أن الفرصة مهيأة للبطل المصري للحصول علي حلم ذهبية الأوليمبياد.
لكن البطل المصري اتخذ قرارًا أدهش الجميع وهو أن يلعب علي القدم اليمني للخصم ولن يلعب علي قدمه المصابة، ولم يصدق الحكام ولا اليابانيون ما يحدث ولكنها الحقيقة، وانتهت المباراة بخسارة محمد رشوان للذهبية مع - أنه كان قادرًا علي الفوز بها بسهولة - ولكنه كسب حب واحترام العالم بأجمعه حتي عندما ذهب لليابان في زيارة استقبلوه في المطار استقبال الفاتحين.
إنها الأخلاق التي يلين لها الحديد، وديننا هو الأخلاق، وعلينا إدراك تلك الحقيقة، خاصة في هذا الوقت الذي تشتد فيه الهجمة عليه، ويسيء البعض إليه، بألا نحصر أخلاقنا داخل المسجد، ونتجاهلها علي أعتابها.