كما أن لكل بلد جنسية وجواز سفر وانتماء وهوية، كذلك فإن شعور الإنسان بهويته وانتمائه للإنسانية مرتبط بالأخلاق.. فالأخلاق هى جواز سفرك وانتماؤك للإنسانية.. فكلما حسنت أخلاقك سينمو بداخلك أنك منتم للإنسانية، وتشعر من داخلك أنك بالفعل إنسان، وهذا شعور نفسى مهم وأساسى يحقق السكينة الداخلية لكل إنسان.. والعكس فكلما ساءت أخلاقك شعرت بوحشة وغربة عن الإنسانية كمن لا يملك هوية أو جنسية..
تخيل كيف يشعر بالغربة والوحشة من هو بلا وطن، إنها حالة نفسية قاسية ومؤلمة بل ومدمرة تجعل من يشعر بها أنه ليس من بنى الإنسان وإنما أقرب للحيوان.. وهو ما عبر عنه القرآن فيم ساءت أخلاقهم « لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»، فالإنسانية والأخلاق أوجدهما الله فى النفس معًا عند خلقها.
الحيوان عاجز عن أن يتعرف على الماضي، لأن ذاكرته محدودة فى الزمان فهى لا تحتفظ بصور بصرية أو سمعية لمدة طويلة. ومن هنا فإن «الزمان» الذى يعيش فيه الحيوان ضيق، لدرجة أنه لا يكاد يمتد إلى الأمام أو إلى الوراء إلا بقدر بسيط جدًا فقط ليحفظ حياته وطعامه.
وحتى حين «يعمل» الحيوان من أجل «المستقبل» فإنه لا يملك فى ذهنه أى تصور حقيقى للمستقبل، كما أنه حينما يتأثر فى سلوكه بأحداث الماضى فإنه لا يملك فى ذهنه أيضًا أية صورة حقيقية عن الماضى بل أن آثار التجارب السابقة قد تتردد فى نشاطه الحاضر، دون أن يكون هناك « تصور» متكامل واضح فالأسماك والطيور تهاجر من منطقة إلى منطقة مهما كانت بعيدة دون إدراك للماضى أو المستقبل.
ولذلك فإن الحيوان لا يعرف معنى كلمة الأخلاق « بمعناها الحقيقى » لأنه لا يستطيع أن يكون له أى موقف أو صورة ذهنية صحيحة ينتزعها من خبراته السابقة.. فإذا وصلت أنك ليس لديك صورة ذهنية عن الأخلاق ولا تملك قدرة على الاستفادة من أخطاء الماضى لصناعة مستقبل أخلاقى أفضل لك فقد هبطت لمستوى الحيوان.
الأخلاق هى مجموع أفعال الإنسان فى الحياة فكل تصرف للإنسان فى الحياة يعكس اختيارًا أخلاقيًا فى موقف معين.. ومن مجموع هذه المواقف تكون قصة حياة الإنسان، فتاريخ الإنسان هو تاريخ أخلاقه فمن كان بلا أخلاق كأنه بلا تاريخ أو قصة حياة.. فهو كمن لا يعرف نسبه أو كمن فقد ذاكرته. فمن أخلاقك تكتب قصة حياتك.. فهل قصة حياتك هى قصة أخلاقية أم لا؟؟
وحدة الأصل اللغوى لكلمة « الخَلق» بفتح الخاء وكلمة «الخُلق» بضم الخاء لها دلالة مهمة ومؤثرة.. فخُلقك وخَلقك وجهان لعملة واحدة.. وبواحدة دون الأخرى لا يكتمل كيانك.. لذلك قال النبى: «الله كما حسنت خَلقى فحسن خُلقى»، فلا معنى لكيانك كإنسان إلا بالاثنين معًا. ضرورة الخُلق للإنسان كضرورة خَلقه سواء بسواء فلا إنسانية بغير أخلاق. كلمتا «خَلق» و»خُلق»، يجمعهما أن أحدهما من الله والأخرى بالله.. فقد ربط الله نشأة الخلق بالأخلاق من خلال وحدة مصدر الكلمة.
لم نجد اتفاقًا بين البشر على اختلاف أجناسهم مثل اتفاقهم على الأخلاق، هى التى كانت من أجلها الأديان، وإليها بعث الرسل، واشتملت عليها كتابات الحكماء، باعتبارها ضرورة إنسانية لا يمكن بأى حال أن تتجرد منها البشرية، وإلا أصبحت مثل الغابة لا ضابط لها ولا قانون يحكمها.
قال صلى الله عليه وسلم: «حسن الخُلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان فى الأعمار»ـ «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم». سئل النبى صلى الله عليه وسلم: «أيُّ الإيمان أفضل؟ قال: حسن الخلق».
السيد المسيح يرى الأخلاق هى ثمرة حياة الإنسان، فيقول: «الشجرة الصالحة تثمر ثمرًا جيدًا والشجرة الفاسدة تثمر ثمرًا رديئًا.. ولا تستطيع شجرة صالحة أن تثمر ثمرًا رديئًا ولا شجرة فاسدة أن تثمر ثمرًا جيدًا.. وكل شجرة لا تثمر ثمرًا جيدًا تقطع وتلقى فى النار فمن ثمارهم تعرفونهم».
وإلى هذه المعانى أشار الحكماء والفلاسفة.. فيقول «كانط»: «شيئان دائمًا يبعثان فى النفس الإعجاب والروعة : السماء المرصعة بالنجوم من فوقى، والقانون الخلقى فى باطنى»، «إن الحضارات لا تموت قتلاً ولكن تموت انتحارًا بانهيار القيم والأخلاق فيها».
الأخلاق هى همزة الوصل بين العالم والإنسان.. الأخلاق احتياج يتجدد يومًا بعد يوم ليوقظ ضمير العالم من كل نقص وفساد.. ولولا الأخلاق لمات ضمير العالم. وإنما يكون نصيبك من مشاعر الإنسانية على قدر أخلاقك.
وتحتل الأخلاق الصدارة فى برنامج حزب العمال البريطانى، فهو يقول إن «الأخلاق أهم من الاقتصاد والسياسة.. لأن الأخلاق هى البنية التحتية لنجاح أى مجتمع فى كل مجالات الحياة».
والحقيقة أنه فى كل حكم شرعى أمر به الإسلام، إنما يهدف إلى تحقيق قيمة خلقية أو جمالية فى الإنسان «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، فالأخلاق فى مجملها هى أجمل الثياب وأغلى العطور وأنفس الجواهر التى يتزين بها الإنسان، تجعله يحظى باحترام من حوله، وقبل كل شيء رضا الخالق، لأنك حين تتأمر بأوامره، ولا تفعل ما تغضبه، تكون طائعًا له، فيحبك الله وتنادى ملائكته فى أهل الأرض أن الله يحب فلانًا.. فأحبوه.. فيزرع محبته فى قلوب الخلق.