لم يتعرض أحد من البشر للأذي والإهانة والتسفيه، بل وحتي محاولات الاغتيال الجسدية، ناهيك عن الاغتيال المعنوي، والخوض في الأعراض، مثلما تعرض رسل الله عليهم أفضل الصلاة والسلام، لكنهم مع كل ذلك كانوا أكثر رحمة بمن آذوهم، فلم ينتقموا منهم، ولم يقابلوا إساءاتهم بالإساءة.. هكذا كانت أخلاقهم.. فكان تسامحهم بمثابة قوة ناعمة وهائلة غيّرت مجري التاريخ الإنساني لصالح الخير والمحبة والسلام.. وهذا ما يجب أن يكون عليه كل مسلم يتأسي بأخلاقهم.
فالحياة لا تخلو من منافسين وخصوم.. لا يوجد إنسان إلا وله له أعداء أو خصوم أومنافسون هذه هي سنة الحياة.. مادمت تسعي تتحرك في هذه الحياة لابد خط حركتك سيتعارض أويتقاطع مع خطوط حركة الآخرين..
وحتي لو تجنبت هذا التقاطع، فسيتعارض الآخرون أثناء حركتهم مع خطك.. هذه هي الحياة، لتنشأ في النهاية شبكة معقدة من خطوط متشابكة متقاطعة.. وهنا يبدأ الاختبار وتظهر حقيقة النفوس.. «وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا».
فكيف إذًا أتعامل مع المنافسين والخصوم لأبقي مستمرًا ناجحًا في الحياة وأحافظ علي سعادتي الشخصية؟.. كن صاحب نفس كبيرة، قادرة علي الحلم والعفو واستيعاب الآخر بدون صدام وتحييده بالحلم والعفو، بل وتحويله إلي صديق، بل إلي مناصر.. فكلما كنت قوي النفس ، كانت لديك القدرة علي التسامح «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا».
«ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ».. كانت هذه الآية بمثابة السياسة العامة والاستراتيجية للنبي في التعامل مع الخصوم.. فرغم ما لحق به وأصحابه في يوم أحد.. حيث الدماء علي وجهه وكسرت رباعيته، إلا أنه كان يدعو لأعدائه، قائلاً: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون»، تسامح من أجل الأجيال التالية.. «عسي الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله».
لقد كان فضالة بن عمير من أشدِّ أعداء الرسول، ووصل حقده عليه إلي الدرجة التي أراد معها أن يقتله في وقت فتح مكة..!! وهذا أمر جِدُّ خطير؛ فالرسول في وسط جيش كبير يبلغ عشرة آلاف من الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا قام فضالة بن عمير بهذا التَهَوُّر فلا شك أنه مقتول، ومع ذلك فقد أعمي الحقد قلبه، فقرَّر أن يضحِّي بنفسه ليقتل الرسول..!!
حمل فضالة السيف تحت ملابسه، ومرَّ بجوار الرسول، وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه، قال الرسول:
«أَفُضَالَةُ؟»، قال: نعم، فضالة يا رسول الله. (وكان يدَّعِي الإسلام في ذلك الوقت)، فقال: «مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟»، قال: «لا شئ، كنتُ أذكر الله»، ضحك الرسول، وقال: «اسْتَغْفِرِ اللهَ يَا فُضَالَةُ»، ثم وضع يده علي صدر فضالة، فسكن قلبه!! فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتي ما من خلق الله شئٌ أحبُّ إليَّ منه.
كان هذا هو تعامله مع رجلٍ لم يكتفِ بالتخطيط لقتله فحسب، بل اجتهد في تطبيق ما خطط، وحمل السيف واقترب، لولا أن حفظ الله رسوله.
علي المستوي الفردي كان «مانديلا» نموذجًا فريدًا ورفيعًا لهذا النوع من التسامح الذي يرفعه فوق أعدائه الذين آذوه طويلاً.
حتي عند الطلاق فنحن مأمورون بالتسامح رحمة بالأولاد.. «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»، كذلك في البيع والشراء، فعن ابن عباس، قال رسول الله: «أحب الدين إلي الله تعالي الحنيفية السمحة»، «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشتري، وإذا اقتضي».
لكن ما الذي يجعلنا لانسامح خصومنا كما كان يفعل النبي؟ لأن النفس الإمارة بالسوء تأبي ذلك.. فتضخم خطايا وعيوب وتشوّهات الخصم حتي تبدو المعركة منطقية، فهذا الشخص قد سبّب لي أذي كبيرًا، كيف أصفح عنه رغم ما فعله بي، وإذا سامحت، فإنني أقر ما قام به تجاهي، وبالتالي أعطيه المشروعية، كما أنه إذا سامحت فهذا يعني أنني الطرف الأضعف، مما يقلل من شأني أمام نفسي وأمام الناس.. هذا ليس صحيحًا.. فالتسامح ليس معناه أنك قبلت أخطاء الطرف الآخر وليس دليلاً علي ضعفك، بل معناه أنك كبير أكبر منه ونفسك واسعة غنية قوية رحيمة..
كن شعارك في الحياة: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»، والحظ العظيم.. هو أن تكسب في الدنيا سعادة.. راحة بال.. حياة اهدأ وأجمل، دون أن تتخلي عن رسالتك أو تظهر علي أنك ضعيف.
لكن كيف أكون متسامحًا؟
حتي تكون متسامحًا.. خذ القرار بذلك.. فالتسامح قرار.. تذكر دائمًا الذكريات الجميلة التي جمعتك بهذا الشخص الذي اختلفت معه.. لاتركز في تفاصيل الخلاف.. بل امحها من ذاكرتك.. تحكم في غضبك.. جرب مرة أن تسامح وراقب التجربة لتستمتع بها.. اتصل به وأخبره أنك سامحته.. اجعل قلبك صافيًا نقيًا من الغل والحقد والحسد.
بقي أن تعلم أن التسامح يحفظ طاقتك، وبالتالي تكون أكثر عطاءً وإنتاجية، فطاقتك 100 وحدة (unit)، وكل غلٍّ تجاه الآخرين يسحب 5وحدات حتي تفرغ الطاقة، بينما التسامح يزيل الضغط النفسي الذي تتعرض له نتيجة الغل.. لذلك الحديث يقول: «من كثر عفوه مد له في عمره».