ما لم يقله أبي

مغازي شوقي
مغازي شوقي

مات أبي ولم يخبرني عن أشياء كثيرة  اكتشفتها بمفردي.. لم يكن يحب أن يشكي همه أو ينثر حزنه.. وجه واحد للقمر أراد لنا فقط أن نراه.. الوجه المشرق الضحوك.. صورة واحدة عن الحياة رسمها لنا وحفر نسخاً منها على جدران غرف دارنا.. حتى شرفة المنزل وضع احداها هناك.

لم يخبرني يوماً عن جرحه أو ندباته وكأنه أراد أن يقول لا تنظر إلى جرحى فتأسى وتحزن .. اتخذ لنفسك مقعداً بعيداً.. هناك وسط الدنيا.. وابتعد عن أويقات همومها.. فهي لا تستحق .. لم يخبرني أن الحياة مليئة بالمتناقضات بين أفراح وأتراح أو أنني في هذه الحياة سأعبر جسورآ مليئة بمختلف أنواع البشر .. لم أكن أدري أن الناس أنواع ..كنت أرى الدنيا كلها  وكأنها نوعآ واحدآ.. أبي.
كنت أراها بعينه.. جميلة جداً ومثالية .. كل الناس طيبين .. كل البشر أهل وأحبة . لم يخبرني أن منهم من يسكنه الشر ومنهم من يجثوا على قدميه اذا رأى مالاً أو منفعة في الأفق .. لم يقل يومآ احذر فلان .. ناعم كالثعبان سام كلدغته ..لم يذكر ذلك لي .. لم يتحدث يومآ أمامي عن الخيانة والغدر .. ربما لأنه لم يعرفها ؟؟ أسأل نفسي ما كل هذه المصطلحات التي لم تطرق بابنا يومآ.. لماذا لم يذكرها ؟ لماذا تركني أختبرها دون أن يلفت انتباهي اليها.. هل حقآ أن الناس أسرى ما يعرفون واعداء ما يجهلون ؟؟
ربما كان يرى فينا فقط قلبآ أخضرآ بلون الحقول حول الدار التي عاشت فينا .. ربما اراد لنا ان تتدفق حياتنا وتسير كماء النهر المواجه في سهولة ويسر حتى يذوب في المالح .. يا أبي .. وحتى النهر ومجراه  غطته مساحات من ورد النيل الشيطاني فغيرت لونه وغيبت هيبته وعطلت سريانه .. يا أبي .. حتى اللون الأخضر ولون الزرع  لا يدوم للأبد    .. يتغير في الخريف ..  لقد أدركت الآن أن فصول السنة أربعة . مختلفة غير متشابهة كلياً.. وعلمت أن الناس أجناس وطبائع .. مثل الأصابع .. تنبت من كف واحد لكنها تتشكل بتباين شديد .. ليس كل الناس انت ..
لم اعد أرى الناس كما علمتني .. اختفت السواقي .. وانتهت مداراتها .. مات شجر الصفصاف الأخضر على شاطيء الترعة .. تلونت البيوت بألوان باهته وتصبغت القلوب بطبقة كالحة من الزيف .. الإيقاع أصبح سريعا جدا يا أبي .. لم يعد بمقدورنا مجاراته ..  كنت قد حكيت لنا أن الذئب يمكن أن يرعى الغنم إذا شبع .. يا أبي .. لقد أيقنت الآن  أن الذئب لا يشبع .. اختفت الرعية .. وضل الراعي طريق البيت .. قصصت علينا حكاوي البركة .. حتى هذه اختفت .. اليوم اصبح كساعة بتوقيتكم والساعة أصبحت لحظة والناس صاروا كالآلات مطحونين يصارعون عقارب الزمن .. ولا وقت للراحة .. العيون يقظه لا تنام ولا تستريح ولا حتى بمقدورها أن تغفل .. الجميع في حالة ترقب .. اين لحظات السكون ؟ هل حقاً مات الشغف ؟  . 
حدثتني يا أبي عن الحب وروعته ولكنك لم تذكر لي ألم الفراق ووحشيته .. تكلمت عن النبل وأخلاقه حتى في وقت الخلاف لكنك لم تسمي معنى الخسة .. حدثتني أن المال وسيلة لكنه الآن أضحى غاية أراها في كثير ممن حولي ، بل منتهى الآمال .. كنت اضحك حينما تقول لي أن الفن رسالة وتسمعنا روائع حليم وأم كلثوم .. ليتك معنا حتى تسعد بما نسمع الآن !..
سبعة عشر ألف يوم ضيفاً على  هذه الحياة .. رقم لا يستهان به .. أمضيتهم في تعلم أومحاولة تعلم الكثير  عنها ومنها . بين نجاحات وعثرات .. بين أفراح وأتراح .. أوقات سعادة وأويقات حزن ..  كانت الرحلة .. وستستمر إلى أن تسترد الأمانة.. حررتني فيها كلمات أبي من عبودية المظلومية والنظرة السلبية للأشياء والأحداث .. أطلقت القيود التي كبلت قدماي كثيراً كثيراً .. وكانت دافعاً للوصول لحقيقة أن الحياة لا تمنحك الدروس جملة واحدة أو دفقة واحدة بالأحرى لكنها تقطرها شيئاً فشيئا ..    حتى كلمات أبي لم تكن كافية لتعصمني .. كان هناك الكثير لم يبح به أبي ...