إدراك أسرار اللغة العربية إحدى وسائل محاربة التطرف

أستاذ لغويات بجامعة القاهرة: الأفكار الإرهابية تتراجع أمام جهود الأزهر فى نشر المنهج الوسطى | حوار

د. محروس بريّك
د. محروس بريّك

علاقة وطيدة تربط بين أفعال الإرهابيين وأقوالهم، بين عقوله- إن كانت لهم عقول- وتفجيراتهم التى تغتال أبناءنا ومستقبلنا، ولهذا كان علينا البحث عميقا فى تلافيف تلك الأذهان السقيمة لنعرف من أى مجرى آسن تأتى أوامر القتل والترويع.. وفى هذا الحوار مع د. محروس بريّك، أستاذ اللغويات بجامعة القاهرة، والباحث فى علوم القرآن، نحاول اختراق تلك الحلقات النيرانية بين النص البرىء والعقل الجاهل والفعل المجرم:

- تكمن المشكلة الأولى عند الإرهابيين فى التأويلات الفاسدة التى لا تتعمق إلى ما وراء الألفاظ ودلالاتها.. كيف ترى ذلك؟
عندما تضطرب الحقائق نحتاج إلى توضيح الواضح، وتأكيد المؤكد، لذلك نؤكد كثيرًا على أن استنباط الأحكام الفقهية وتأويل معانى القرآن وفهم السنة النبوية فهمًا صحيحًا، كل ذلك لا يمكن أن يتحقق ما لم تكن هناك شروط، أولها أن يكون المستنبط أو الفقيه أو الداعية على علم بأسرار اللغة العربية وبلاغتها، وعلى دراية كافية بعلم المناسبة، وهذا ما يفتقده كثيرون ممن أتاحت لهم وسائل التواصل فرصة الحديث دون أن يكون للحكومات المختلفة سلطة تخوّل لها الرقابة على محتوى ما يقدمه هؤلاء، خاصة من يدعو منهم إلى العنف وهدم مقدرات الدول؛ كما أن العلاقة بين علوم العربية والعلوم الإسلامية قديمة ممتدة متجددة، وكلنا يعلم أن النحو نشأ بسبب شيوع اللحن على ألسنة الناس بعد أن امتدت رقعة الدولة الإسلامية إلى بلاد غير العرب آنذاك. وكذلك بقية علوم العربية نشأ أكثرها خدمة للنص القرآني، وبخاصة علم البلاغة. وتاريخ التأليف فى العلاقة بين أصول الفقه وأصول النحو تاريخ ممتد كذلك، وهناك من ألَّف حول ما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية.

جهل لغوى
- هل ترى أن اللغة العربية ذات خصوصيات كبيرة وتحتاج إلى بعض الجهد لأنها لا تعطى معانيها لأول طارق؟
إن الجهل باللغة وأسرارها يعد أحد الأسباب الرئيسية فى شيوع الفكر المتطرف، وقد عانت مصر والأمة العربية من تلك الجماعات التكفيرية التى تستنبط الأحكام بناء على أيديولوجيات تخدم مصالحها، إما من باب المغالطة وفرض وجهات النظر الأحادية التى لا تتقبل الآخر، أو من باب عدم وجود دراية كافية بأسرار اللغة وعدم الوعى بالسياق العام والخاص، فأدى ذلك إلى استنباط خاطئ للأحكام وتكفير المجتمع المسلم، فضلا عن تكفير حكومات الدول بالطبع، وعانت الدول العربية والإسلامية من تلك الجماعات وقدمت فى سبيل مجابهتها مئات بل آلاف الشهداء.
إن التصدى لهذا الداء المستحكم لا يكون إلا بإصلاح منظومة التعليم برمتها، بدءًا بمراحل التعليم الأولى وانتهاء بالمراحل الجامعية، والتوسع فى تعلم علوم العربية، ونشر منهج الإسلام الوسطى الذى يمثله الأزهر الشريف أفضل تمثيل، لأن أى أرض يفقدها المنهج الوسطى تحتلها مباشرة المناهج المتطرفة.

علاقة وثيقة
- هل يعنى ذلك أن هناك علاقة بين معرفة أسرار العربية وتجديد الخطاب الديني؟
نعم بالطبع، هناك علاقة وثيقة بين تعلم العربية ومعرفة أسرارها وبين تجديد الخطاب الديني، ولا شك أيضا أن تطوير التعليم بوجه عام، وليس تعليم اللغة فقط، أمر لازم كى تلحق أية أمة بركب الحضارة، لأن الحرب على الإرهاب ليست بالسلاح فحسب، بل هناك حرب لا تقل ضراوة عن حرب السلاح إنها حرب الأفكار، خاصة أن أصحاب الأفكار المتطرفة يستغلون سطحية المعرفة اللغوية والدينية لدى جبهات عريضة من أفراد المجتمع فيملأون رؤوسهم بأفكار العنف والتطرف، فإذا ما صاحب تلك المعرفة السطحية المشوشة تدين فطرى لدى بعض أفراد المجتمع فحينئذ يصبح أولئك الأفراد أرضًا خصبة لقبول الأفكار المتشددة.

- هل يعنى ذلك أن تطوير منظومة التعليم له دور فى مواجهة التطرف؟ وكيف يتم ذلك؟
للإجابة عن هذا السؤال سأضرب مثلا بالبلاغة العربية وطريقة تدريسها، فليس منطقيا مثلا ونحن فى عصر التكنولوجيا والصورة أن يظل بعضنا يدرس النحو والبلاغة على طريقة الاستظهار والحفظ والتلقين فحسب دون إعمال العقل فى ذلك النص المحفوظ وتقديمه للمبتدئين والدارسين المتخصصين وغير المتخصصين بطريقة تلائم روح العصر الذى يعيشونه. لقد أصبحت البلاغة فى مناهجنا التعليمية ضربا من القواعد الصماء، ولم تعد تلك القواعد البلاغية تمد الطالب بالذائقة التى تجعله يميز بين نص جيد ونص رديء، أو بين فكر صحيح وفكر متطرف، إننا نعيش عصر التلاعب بالأفكار، فهل استطاعت تلك القواعد البلاغية أن تمكن خريج الجامعة من التمييز بين الصدق والمراوغة والاحتيال فيما يقدم إليه من مواد لغوية عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.. لا أظن!

لغة الحضارة
- بناء الدولة الحديثة مشروع كل مصري، هل للغة العربية دور منشود فى هذا المشروع؟
اللغة وعاء الفكر، ومظهر من مظاهر الهوية، وإحدى مقومات الحضارة، تلك مُسلَّمة لا يُمارى فيها أحد، انظر إلى الحضارات المتعاقبة على مر الزمان ستجد أن اللغة كانت وسيلة من وسائل التعبير عن مظاهر تلك الحضارة عبر الزمن، فلم يبدع أو يؤلف أصحاب حضارة بغير لغتهم. أجدادنا الفراعنة على سبيل المثال خلدوا تاريخهم وعاداتهم بلغتهم الهيروغليفية على جدران المقابر والمعابد. وربما قيل إن اللغة العربية لغة صعبة، والحق أن الصعوبة تكمن فى وسائل تدريس اللغة العربية، وليس فى اللغة فى حد ذاتها. وليس عيبًا أن نقتدى بالأمم التى نجحت فى أن تضع للغاتها مكانًا على خارطة البحث العلمي، مثل اليابانيين والصينيين والكوريين، فهم-على ما فى لغاتهم من صعوبة- لم يفعلوا فعلنا نحن العرب ولم يولوا وجوههم شطر الغرب ليؤلفوا بالإنجليزية أو الفرنسية، ولم يركنوا إلى الدَّعة والخمول، بل انكبوا على لغاتهم فألفوا بها وأبدعوا.