خواطر التابعى ليلة رأس السنة.. وسهرة مصطفى والشناوى فى كازينو بديعة

خواطرالتابعى ليلة رأس السنة.. وسهرة مصطفى والشناوى فى كازينو بديعة
خواطرالتابعى ليلة رأس السنة.. وسهرة مصطفى والشناوى فى كازينو بديعة
كل عام وأنتم جميعا بخير وعافية.. فاليوم رأس السنة الميلادية.. ونحن جميعا « حكومة وهيئات وأفرادا « نؤرخ المراسلات والحوادث بالشهور الإفرنجية، والسنين الميلادية، والصحف فقط وبعض الهيئات الحكومية « لا كلها « هى التى تذكر التاريخ الهجرى من شهر وسنة والتاريخ القبطى إلى جانب الشهر الإفرنجى والسنة الميلادية بل إن الكثيرين منا لا يحفظون أسماء الشهور العربية.. وقليلون جدا هم الذين يحفظون أسماء الشهور القبطية !
أما فى مراسلاتنا الخاصة فنحن نكتفى بكتابة التاريخ الميلادى.. وتاريخنا كله.. إما قبل الميلاد..وإما بعد الميلاد، ولا ذكر فيه لسنة كذا قبطية أو سنة كذا قبل الهجرة أو بعد الهجرة !!
وربما كان السبب فى هذا أن الذين حققوا تاريخ مصر وكشفوا عن آثارها القديمة وفكوا رموز الهيروغليفية.. ووثائق أوراق البردى كانوا جميعا من الفرنجة.
ونحن نحتفل بعيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام..ونحتفل بعيد رأس السنة الميلادية.. والحكومة وحدها وبعض الهيئات هى التى تحتفل بعيد ميلاد النبى عليه الصلاة والسلام.. وبعيد رأس السنة الهجرية.. وقليلون جدا من الأفراد الأتقياء الصالحين يحتفلون بهذين العيدين.
ولعل السبب هو أننا نميل بطبيعتنا إلى البهجة والمرح..وفى احتفالات الأجانب وإخواننا المسيحيين بأعيادهم كثير من البهجة والمرح.
أما أعيادنا نحن « وأقصد أعيادنا الدينية « ففيها شئ غير قليل من الكآبة والتزمت..بل فيها بكاء ونواح..! وفى بيوت كثيرة فى صباح يوم عيد الفطر أو عيد الأضحى..يرتفع صرير وعويل.. وضرب ولطم ونواح على «سبع البيت» الذى طواه الموت..أو» فايت لى دول لمين يا جملى «.. و» دول» هم الأطفال الصغار !..أو»يا خراب البيت من بعدك، يا أبويا.. أو يا اخويا.. أو يا غالى.. إلى آخره !.. ثم يركب الجميع عربة إلى المقابر لكى يمضوا يومهم « يوم العيد « فى البكاء والنواح وذكر الفقيد العزيز.. وهذا وفاء، ما فى هذا شك.
ولكننى اشك فى أنه مازال بيننا كثير أو قليل بهذا الوفاء.. ومن هنا ينشأ أطفالنا وصغارنا وقد انطبعت فى نفوسهم وذاكرتهم صورة حزينة كئيبة عن أعيادنا نحن المسلمين.. ولسنا وحدنا فى عدم الاهتمام بأعيادنا..وانظروا إلى الفنادق الكبيرة والمطاعم المشهورة والدور التجارية فى عاصمة البلاد، القاهرة.. هل بينها من يحتفل أو يقيم زينة ما بمناسبة مولد النبى عليه الصلاة والسلام أو بمناسبة رأس السنة الهجرية ؟.. هل بينها من يقدم طعاما خاصا بمناسبة أحد هذين العيدين ؟.. هل بينها من يقيم حفلة ساهرة.. ! هل بينها من يعرض زينات خاصة أو بضائع خاصة فى واجهة محله التجارى.. بمناسبة عيد مولد نبى الإسلام أو رأس السنة الهجرية !
كلا.. لأن الاحتفالات كلها والزينات كلها.. والبرامج والسهرات الخاصة كلها.. والواجهات أو « الفترينات» المنظمة تنظيما جميلا بمعروضاتها الخاصة كل أولئك مقصور على عيدى الميلاد ورأس السنة الميلادية !.. بل إن عيد ميلاد السيد المسيح عند إخواننا الأقباط والكنيسة الشرقية لا يحظى بنصيب ما من هذا الاهتمام !.. الاهتمام كله مركز على العيدين عند الأجانب والطوائف الغربية !
ثم أعود إلى الذكريات..
منذ نحو عشرين عاما كتبت فى رأس السنة.. أول يناير.. السطور التالية :
يومان فى العام كنت أقضيهما فى الفراش وفوق رأسى كيس من الثلج أحاول أن أخفف ببرودته ما خلفته السهرة فرأسى من نار وبخار !
19 مايو.. أى غداة الاحتفال بذكرى « ولا أقول عيد « مولدى لأن أصدقائى متفقون على أن مولدى ليس بالحادث الذى يحتفل به أو الذى نشرب بمناسبته الأنخاب.. واليوم الآخر هو أول يناير.. أما فى العام الماضى فقد استقبلت صباح 19 مايو وفى قلبى « لا فوق رأسى « تقل من الثلج خلفه أمل خاب.. وكان يوم 19 مايو بالذات هو يوم الوداع ويوم الفراق.
واليوم « أول يناير « أجلس إلى مكتبى فى الصباح الباكر ورأسى أصفى وأبرد ما يكون فقد كنت أقسمت أن امضى ليلة رأس السنة فى مسكنى وحدى وأن استقبل العام الجديد بعزم جديد وسحبت نفسى إلى مسكنى.. وأنا أعيش بمفردى.. والنور الخافت الذى أضأته كان يلقى ظلالا ثقيلة من الذكريات.. وما أمرّ الوحدة عندما يحس المرء منا أن كل عام جديد يدنيه خطوة من خريف الحياة !
وأمام المدفأة تراخيت فى مقعد كبير، وأدرت مفتاح الراديو وإذا بالمذيع يقول إنه باق على استئناف البرنامج لحظات سوف يملؤها باسطوانة للآنسة أم كلثوم.. ولقد شاء ذوق المذيع أن يختار أغنية « ياما أمرّ الفراق « !.. وكان يمكنه « والليلة رأس السنة أن يختار مثلا «افرح يا قلبى « أو» يا بهجة العيد السعيد «.. ولكنه اختار « ياما أمرّ الفراق «.. كأنما النور الخافت والوحدة والقلب الكسير كانت تحتاج فى انسجامها إلى هذا اللحن الحزين!
ياما أمرّ الفراق.. وتفتحت عيون الذكريات !
كانت هذه أول مرة امضى فيها عيد رأس السنة فى مصر..منذ خمس سنوات.. وها أنا أمضيه وحدى..أنا الغريب فى بلدى..الغريب بين الأهل والأصحاب.. ومن وراء غلالة من الدمع المحبوس مر شريط طويل من الصور..بعضها هنا فى مصر..ومعظمها هناك عبر البحار.. فى باريس وفى لندن وفى زيوريخ وسان موريتز وبال وبودابست وبرلين وانسبروك وبروكسيل، وبرجن وأوسلو ونيويورك.. بل فى ترنيداد بجزر الهند الغربية.
صور، وصور.. وكل صورة منها كانت صفحة من كتاب الحياة وقد كتبتها بدم قلبى.. وها هو ذا القلب قد جف أو كاد.. فهل فى مداده القانى بقية لكتابة سطر واحد جديد ؟
ودقت الساعة الحادية عشرة.. ساعة واحدة باقية على مولد العام الجديد.. ساعة واحدة ثم تطفأ الأنوار لكى يتبادل المحبون الأمانى والآمال.. والقبلات.. وما أنا فى حاجة إلى إطفاء الأنوار.. فإن قلبى مغمور فى الظلام.. وهذه السطور كتبتها كما قلت منذ نحو عشرين عاما.. أى قبل أن أتزوج وأرزق بطفلين والثلاثة هم الآن عندى كل شئ فى الحياة والحمد لله.
***
ثم أنقل القراء لبعض ما كتبه مصطفى أمين فى العدد نفسه من آخر ساعة ومنذ نحو عشرين عاما.. ولم يكن قد أكمل بعد السابعة والعشرين من عمره.. قال : « أقبل رأس السنة وقلبى معتنق مذهب لينين وستالين أى المبادئ الشيوعية فى الهوى والغرام فقد كنت أقمت على قلبى خط ماجينو يمنع الغزو ويقف دون المغرين، ثم سقطت» قلعة « قلبى فى يد الغزاة والفاتحين فاستعبدها البعض وأذلها الآخرون ثم تحرر قلبى من الهوى والهوان وزال استعباد الفرد ليحل مكانه استعباد المجموع.. ولى ثلاث صديقات أحبهن جميعا ولست اعرف من المفضلة عندى، فالأولى أجملهن والثانية أذكاهن والثالثة أرشقهن، ولو كان الثلاث واحدة لكانت المرأة الكاملة الوحيدة فى الوجود..وكان الموعد الأول فى فندق مينا هاوس والحضور بسترة الفراك.. وكان الموعد الثانى فى فندق هليوبوليس بمصر الجديدة والحضور بسترة السموكن.. والموعد الثالث فى المعادى والحضور بالملابس العادية.. وحرت بين المواعيد الثلاثة.. والنساء الثلاث.. وأخيرا قررت أن اعتذر عن عدم الذهاب إلى المواعيد الثلاثة.. وأمسكت بالتليفون وقلت للأولى إن هناك أزمة وزارية.. وقلت للثانية إننى مشغول بأخبار الغزو الألمانى لإيطاليا.. وقلت للثالثة إن وزير الأوقاف قد استدعانى ليعطينى تصريحا عن أوقاف المسلمين.. وذهبت أنا وصديقى كامل الشناوى إلى صالة بديعة مصابنى وجلسنا وحدنا نتطلع إلى وجوه الفتيات الراقصات كما يتطلع الجائع إلى طعام وراء زجاج فترينة مطعم مشهور.. ودقت الساعة الثانية عشرة وأطفئت الأنوار وحدث هرج ومرج، وطرقعت القبلات وتلفت حولى لأجد وجها أقبله فلم أجد سوى كامل الشناوى.. وترددت هل اقبله أو لا ؟
وأقنعت نفسى أن عملا كهذا هو الذى يسميه القانون ( فعل علنى فاضح فى الطريق العام ).. ثم أضيئت الأنوار.. ولكننى أحسست كأن الظلام لا يزال..فقد أضيئت الأنوار فى عيون جميع الجالسين فى صالة بديعة ماعدا عينى..كأن الظلام يزداد حلكة.. وكانت عينىّ تبكيان بلا دموع.. وكأن فى قلبى مأتما على الذكريات.. كانت هذه أول سنة بعد سبع سنوات لا افتتحها بقبلة حارة على شفتين حارتين.. وكانت هذه أول سنة لا اشترك فى ضجيج الراقصين.. وكانت هذه أول مرة اشعر فيها إننى أعيش حقا على ( هامش الحياة )، ومرت أمام عينىّ.. قبلاتى السبع الماضيات فى نيويورك وواشنطون وروما والمحيط الأطلسى..و..و..غيرها..هذه القبلات التى كانت « البروكة « التى أتبرك بها كل عام ! «.
بقلم : محمد التابعى
الأخبار - 1 يناير 1960