حريم السلطان والدولة العثمانية

يسرى الجندى يكتب:

اعتذر

عن تسرّعى فى الحكم على المسلسل التركى «حريم السلطان» إذ اتخذت موقفاً متعجلاً أولى حلقاته وانصرفت عنه ثم أقنعنى بعض الأصدقاء بمتابعته كاملا حتى يستقيم الرأى فيه كما تعودت- وبالفعل شاهدته كاملا بعدها والآن أتابع مشاهدته ثانية واصلاً أواخر الجزء الثالث.
- الحقيقة أن المسلسل مختلف إلى حد كبير عن كل ما تقدمه الدراما التركية المعاصرة، والتى صارت على مائدة المشاهد المصرى والعربى فى كل محطاته بكل ما تحمله من إرث المليو دراما المصرية والهندية مع قدر من التقدم التقنى والدعاية السياحية وما عدا ذلك فلغو- أما حريم السلطان فعمل فنى حقيقى واستثنائى يحكمه فكر ومواهب كبيرة وراء كل عنصر فيه. وهذا العمل يثير لدى انطباعات عدة ربما يكون أولها ما يتعلق بتاريخ ليس ببعيد كنا قادرين فيه على إنتاج أعمال كبيرة بعضها استثنائى ايضا ولم يكن بقادر على انتاجها سوى التليفزيون المصرى وحده حين كان يقود حركة الإنتاج المصرى بمعيار الجودة والتميز.
- وبحكم إلمامى قدر ما استطعت بتاريخ الدولة العثمانية حيث كنت أعدّ لكتابة مسلسل «سقوط الخلافة» فإن هذا العمل ردنى إلى القراءة ثانية وقد أضاف لما شغلنى وقتها أسئلة أخرى لها علاقة بمسلسل حريم السلطان وايضا بتركيا الحديثة بعيداً عن موقفها من مصر الآن أو موقف مصر منها. ولنتوقف أولا فى عجالة عند تاريخ الدولة العثمانية. - العثمانيون ينتمون فى الاصل إلى قبائل وعشائر الترك التى تواجدت مع غيرها فى أواسط آسيا وشمال الصين.. ولكن بسبب قوة المغول اضطرت كثرة من هذه القبائل إلى التحول غربا ومنها عشيرة كان يرأسها جد «عثمان» مؤسس الدولة العثمانية- حتى وصلت إلى شمال غرب الأناضول لتركيا من الأراضى الإسلامية وخلال فترة اضمحلال دولة السلاجقة والتى احتضنت مجموعات من أتراك أخر ليصير هناك ١٦ دولة تركية منها دولة أو إمارة يقودها فى أقصى الشمال من غرب الأناضول «عثمان» لتصير خلال زمن قصير نسبيا دولة قوية توسعت بسرعة وهى الدولة التى قدر لها أن تكون من الأتراك الأول امبراطورية مترامية الأطراف تحكم شعوبا ومللا وأجناساً مختلفة فى صعود سريع ساعد على اختلاط الحقيقة التاريخية بالاساطير فيما روى عنها ولم تكن تلك هى المشكلة فط بل مسألة الأصل الحضارى لهذه الامبراطورية، ذلك أن نشأتها على يد جموع من الاتراك اشتغلوا بالرعى إلى ان كونوا امبراطورية هائلة ضمت ضمن ماضمت عالما عربيا لمدة أربعة قرون وهو عالم يضم اكثر من اصول حضارية بخلاف ما خلفه لها الأناضوليون من حضارة فى الأناضول، كما أخذت نظم الإدارة من دولة الماليك، ومثلما تأثروا بالبيزنطيين فقد تأثروا بالصقالبة، كما أن ايطاليى عصر النهضة كان لهم أثر على الطبقة الحاكمة بخلاف ما أحدثه تواجد الفرس من أثر.. هذه العناصر الحضارية تجمعت لهذه الدولة الجامحة فى صعودها غير أن الصعود السريع الذى بلغ ذروته مع السلطان «سليمان القانونى» ربما كان من اسباب انهيارها الذى حاول العثمانيون ايقافه مثل «السلطان عبدالحميد» الذى تعرضت لمحاولته فى سقوط الخلافة حيث سعى لمحاصرة الضعف والجمود بخلاف الحركات الإصلاحية التى تكررت وفشلت نتيجة تمسك الكثيرين بالنظم البالية والخواء الحضارى، فى حين اسقطت اوروبا الاقطاع وقتها وأقامت الحكومات المركزية القوية وحولت البحر الابيض المتوسط إلى بحيرة اوروبية تجاريا بخلاف ما ألحقته بالامبراطورية العثمانية من هزائم.. هذه الامبراطورية التى امتد تواجدها منذ عثمان مدة ٦٢٣ عاما «١٢٩٩- ١٩٢٢م» ألحقت بالعرب أربعة قرون منها- صنوفا من التخلف والاستبداد وخاصة فى العقود الأخيرة التى شهدت بوادر يقظة متأخرة ضد التخلف والاستبداد كما حدثنا الكواكبى والأفغانى وتلامذته من قبل الكواكبي.
- والأسئلة التى تقف وراء هذه العجالة كثيرة منها ما يخص تركيا الحديثة فى صورتها الحالية الغامضة.. ومنها تأثير فقدان عناصر حضارية حقيقية بل كما قال الباحث التركى «محمد فؤاد كوبر يلى» عن التكوين الحضارى لهذه الامبراطورية تشكل من شتات غريب وربما متنافربما ورثته عن حضارات أخرى بعضها لدول هدمتها بقسوة ولكنها استمرت بعد سقوطها!
- أما تبرير التوسع والإستحواذ على دول شرقية أو غربية باسم نشر الإسلام وبقاء الخلافة! والدفاع والحفاظ على استمرار «السلالة فى الدولة العلية» سلالة عثمان!.. فتقودنا ايضا لما هو أخطر وهو «شرعية الاستبداد».. إذ كان حكم السلاطين العثمانيين تجسيداً عالى التكثيف لشرعية هذا الاستبداد الشرقى المطلق والذى حدثنا عنه «د.جمال حمدان» وهو اساس ما يعوق الأمم فى قضيته «الديمقراطية». ويعتبر العثمانيون أكثر من كرسوه فى تاريخ الشرق. وإذا كان انتاج مسلسل «حريم السلطان» بهذا المستوى الرفيع فكرا وفنا.. يقابله كم هائل من الهراء الدرامى رغم بريقه الزائف، فهو فى الحقيقة تجسيد مبسط لهذا الفصام فى تاريخ هذه الامبراطورية الكبيرة الذى يحتاج إلى مراجعة دقيقة تبحث فى تأثير ذلك على أوضاع تركيا الحديثة الغامضة وصراعها الغريب للحاق بأوروبا والرفض الأوروبى لها!!
- الفن الحقيقى يحمل أحيانا بصيرة لاتتوافر للمؤرخين.. وعند إعادة مشاهدتى لمسلسل «حريم السلطان».. وجدته يكشف بتلقائية عن حقائق نجدها مموهة وغامضة فى التاريخ وهوما أتمنى التعرض له بعد اكتمال المشاهدة الثانية لهذا المسلسل الهام والذى يحمل رغم ذلك بعض النقائص!