خاطرة

الجهل.. قوة قتل ثلاثية!

كثيرا ما نتحدث بقلق عن نسبة الأمية المرتفعة دون مواجهة فعالة.. وننسى فى الوقت ذاته أيضا الأمية الأكثر إيغالاً ونهشاً فى عقل الأمة.. وهى الأمية الثقافية التى تنسحب - بجانب الغالبية وما هى فيه - على نسبة كبيرة من المتعلمين حتى المرحلة الجامعية والمذهل أن الكثير منهم جمع بين السوءتين الأمية التعليمية كتابة ونطقا والأمية الثقافية.. والمخزى أن نجد بعض كبار المسئولين قد حلت بهم هذه الآفة ونالت من مصداقيتهم.
ـ باختصار نحن أمام وباء تفشى فى جسد الأمة وعقلها بما يجعلها أقرب إلى الهشاشة وربما كان لذلك علاقة بالأداء السيئ لكثير من المسئولين، وليس فى هذا تشويه مبالغ فيه إذا سلمنا بحقيقة أكيدة بإجماع كثير من المفكرين وهى أن علاقتنا باللغة الأم ـ وهى هنا اللغة العربية ـ دليل تقدم حقيقى أو العكس.. ولكن مازال للقصة بقية أشد إيلاماً.
ـ أتذكرون كم من سنوات طويلة مضت ونحن نشكو من حال النظام التعليمى الذى يأبى أربابه المتحصنون خلف بروج مشيدة لا ندرى من شيدها لهم حتى لا نطالهم.. أقول يأبى أرباب هذا النظام التعليمى أن يحيدوا ولو قيد أنملة عن خرابه الشامل. وهو خراب بالمعنى الحرفى الذى ندفع وتدفع الدولة معنا ـ ثمنه عداً ونقداً ـ ولكن هباء منثورا ـ  مقابل فساد كامل وضعف مهين فى مناهجه ومقاصده الغريبة المريبة ولكن قبل ذلك وبعده هناك الآفة العظمى.. «التلقين» أتدرون ما تعنى التلقين؟.. إنه حكم بالإعدام على العقل الذى خلقه الله ليفكر وميز به الإنسان عن باقى مخلوقاته ودعانا إلى إعماله بالتفكير فى كل شيء بل أمرنا بذلك!.. لكنهم شاءوا غير ذلك.. شاءوا ان يحرموا أبناءنا منذ الصغر من إعمال العقل وبالتالى يحولون دونه والتفكير الخلاق الذى هو الهدف الحقيقى للتعلم والذى يحكم مسيرة الإنسان على الأرض منذ وجد ويمكن من عمارة الأرض.. وأن هذا التفكير الخلاق الحر هو السند الحقيقى لوجود الحضارات وازدهارها.. وأن أفولها مرتبط بانحطاط الفكر وضمور القدرات الخلاقة للعقل وليس ضمور عناصر القوة المادية فقط ـ فانظر إلى آلهة الأوليمب فى مكانهم الحصين ـ بوزارة التعليم ـ ماذا يفعلون بنا بنهجهم العقيم ومكاسبهم الضيقة الغبية كى يظل الحال على ما هو عليه لا يمسه طائف من فكر جديد أو تخترق ظلمة القبور فيه.. طاقة من التجديد ـ ألم يخطر ببال أى منهم أن عصر العلم الذى سبقنا بمراحل يجعل من تمسكهم بجمودهم جريمة كبيرة فى حق هذا البلد ومستقبله رغم سبقه فيما سلف فى  مضمار الفكر والعلم والإبداع!.. بل كان فجرا للضمير بإبداع عقلى وروحى فريد ـ أما مصيبة المصائب التى يحملها إلينا هؤلاء الجهال.. هو جريمة «الإرهاب» فهل ثمة علاقة بين التعليم والإرهاب؟.. نعم.. التلقين.. كلاها من مصيبة واحدة نبتت من ماء آسن «التلقين» أعنى أن الإرهاب يقوم على التعصب والتعصب سنده التلقين الأعمى الذى لا يقبل إعمالا للعقل.. فأى وليمة شيطانية يقيمها التعليم بالتلقين وطمس القدرة على التفكير ـ ليلقى الإرهاب من أبنائنا من شاء فى أتونه الجهنمى.. ومن لم يسقط فى شباكه ظل على تعصب جهول يخدم كل من أراد العبث بالعقول ومستقبل هذا البلد.. بل ربما يملك أن يجهض ثورة بأكملها ان كانت الغلبة لأكثرية جاهلة متعصبة لا تتبين حقيقة مصالحها ومصائرها.
إذا تأملت قبح التلقين فى التعليم.. فتأمل معه ما يردد المتعصبون مما تم تلقينهم إياه مما جرى اجتزاؤه من القرآن الكريم أو السنة وجرب ان تناقشهم فى مقاصد ما تلقنوه أو طبيعة ـ سياقه الحقيقى فلن تجد أذنا صاغية أو عقلا يحاول تفهم قولك ومن يحاول! وانظر فى أسى العاجزين ـ حين نفتقد الحوار ـ كيف يقف التلقين الأعمى خلف الدماء التى تسفك بغزارة كل يوم فى أرجاء الوطن العربى وكل مظاهر الدمار والضياع والتشرد أو القرار من الموت إلى الموت.. وأهوال متلاحقة نعجز عن ملاحقتها.. تضعنا جميعا أمام مجهول.. لا مقيات  له ولا ملامح.. وخلف هذا كله عقول مغلقة بأفكار صدئة وقلوب ماتت.
ـ لا تقف أوجاعنا مع الجهل ومصائب التلقين والتعصب عند هذا الحد بل تمتد إلى قضية الديمقراطية فى العالم العربى وما يحيط بها من مشاكل وتعثر وفقدان للحياة السياسية الصحيحة. وإذ نأتى لأمر الثقافة فلها اتصال مباشر بالجهل والتعصب والحق أن ما ساعد على هذا الربط بشكل سلبى تماما حيال أى دور فعال للثقافة أمام الجهل والتعصب وما حل بالعقل المصرى طوال عقود سلفت من تسطيح مقصود وتهميش للثقافة الوطنية ومن ينتمون إليها وإن كان ضعف علاقة هؤلاء بالغالبية المحاصرة بالجهل المزدوج والتعصب والخرافة، على يد من همشهم وهمش دورهم ـ إذ كان ذلك مطلوبا فى العقود الماضية، ولا يبدو أن الأمر تغير حتى الآن والجهل على حاله والمسئولون على تواكلهم فلا نرى سوى مهرجانات يومية «وهيصة» لا يقف خلفها أى نتاج ثقافى حقيقى أو استنهاض للوعى لدى الجماهير أو أى دعم فعلى لما مات من الابداع المصرى!
ـ أما علاقة الجهل والتعصب بالإعلام فله علاقة وثيقة بالمسألة قد نأتى إليها تفيصلا.