خاطرة

هل رحل عنا ومعه أحلامه؟

 قد أتي علينا حين من الدهر.. كنا من الحالمين.. وما كنا بواهمين.. والفارق بين الحلم والوهم كبير.. يحدده ما نصنع بأحلامنا كي تصير حقيقة أو نعجز عن تحقيقها.. فتتركنا عارين من الأحلام والقدرة.. لكننا نتحدث عما كان عليه حالنا حين كنا حالمين قادرين.. حين أقبل علينا أكثر من فارس من فرسان الأحلام النبيلة في تاريخنا.. وكان آخره رجلاً مازالت الإتهامات تطال له موسمياً أو حين تلوح فرصة.. وحتي لو صح ما يكررونه دوماً من أخطائه.. فإن خطيئة الكبري هنا وهناك.. هو أنه تجرأ علي الحلم.. بما ينال من مكاسبهم أو هيمنتهم.. حلم.. ودعانا أن نحلم معه. وأن نسعي لتحقيق ما نحن به حالمين من عالم أفضل لنا ولمن بعدنا.. حالمين  بالانعتاق من أي تبعية.. حالمين باقتحام العصر ومسابقة خطوات الزمن المتسارعة.
- في وقت هذا الحلم وسعينا لانجازه وإرساء أسسه نشأ (أحمد زويل) وتنسم مبكراً ريح الحلم هذا وتكون. وهذا ما يتعمد الكثيرون أغفاله رغم أنه تأصيل صحيح.. لا ينفصل عن باقي مشواره!
- في ظل هذه الشجرة الوارقة نشأ زويل ونما - قبل ان يجتزوا ساقها بعد أن يرحل فارسها - ولم يكن أفضل ما نال زويل من هذه الفترة الخصبة حقه في تعليم صحيح مثمر بل كان الأهم أنه تنسم روح هذا الحلم فطار بجناحه إلي ديار لا تخشي في العلم وقدسيته لومة لائم - وبروح الحلم تعلم مالا يعلم وتفوق فاحتضنوه وصار رصيداً من العملة الصعبة - في العلم مجاله تفوقهم الأول وفي مسيرة حضارة براجماتية تتعارض مع جيناته المصرية لكن دون تصادم. والمفارقة الأشد.. في أن تقاربه مع تلك المنظومة العلمية الصارمة.. كان الواقع هنا في نفس الوقت يتفكك والحلم يتراجع مع رحيل فارسه في العالم العربي وبدأ الضرب العنيف لقوة العالم العربي خطوة إثر خطوة حتي جاء زمن الطوفان الواسع الذي مازال يضرب  جنبات العالم العربي شرقاً وغرباً بجنون!
- هل كان د. زويل في غيبة عن هذا؟!.. ربما يقال أنه كان مستغرقاً في رحلته العلمية في واقع غربي صارم في الإلتزام بالعمل وفي منطقه النفعي المدعم له.. وربما كان علي غير اتصال بما يجري في دياره شأن بعض المغتربين.. ولكن الأمر في الحقيقة علي غير ذلك.. وهو ما تأكد يوم أن توجوه بنوبل.. فكشف للعالم عن جوهره البعيد وعمق تكوينه الذي لم يمح والذي جعله مازال لصيقا بوطنه.. الذي ولد فيه الحلم وفيمن حوله من أوطان في صباه وشبابه لكن المرارة التي تلمحها في حديثه ودعوته للنهوض الوطني والقومي - رغم لهجة التفاؤل - تشي بأنه مدرك بما حل بالجميع وأن الواقع ماعاد كما كان في زمن الأحلام، بل إن دعوته الملحة إلي المنهج العلمي والعقلي وبشكل متكرر يؤكد اكتشافه لمدي التردي وغياب النهج  العلمي والعقلي وكل الأسس اللازمة للنهوض من الواقع العربي برمته وأن ذلك مصدر مابها من بلاء وضياع وتخلف أتاح العبث بمصائرها لكل من أراد بالداخل أو بالخارج.. والحق أن هذا الرجل العظيم عاني من مفارقات شتي شكلت في مجملها ملمحاً مأساوياً فحتي هذا المجتمع الامريكي الذي أتاح له هذا التفوق الكبير، مجتمع تحكم ثقافته براجماتية لاتفهم الا لغة المصالح وهو ما ترك داخله - رغم الجينات المصرية المختلفة - جوانب معاكسة ترتب عليها أخطاء آلمته مثل قبوله لجائزة (وولف) الإسرائيلية والتي ظل لا يذكرها أبداً وخاصة بعد أإنغماسه في الدعوة القوية الي التغيير الجذري إزاء سوء الحال المبالغ والتدهور المستمر للقضية الفلسطينية وسط تدهور عربي عام ومخيف. إن دعوته للتغيير أخذت تتصاعد منذ أكد بوضوح انتماءه الوطني حين ألقي كلمته عند استلام جائزة نوبل وحتي بدء دعوة رحيله بكل صور الحوار والتلاقي وطرق كل ابواب التأثير وأذكر هنا المرة الوحيدة التي التقيته فيها واستمعت فيها إليه أكثر عما تحدثت وكانت دعوة كريمة منه لاسرة مسلسل (من أطلق الرصاص علي هند علام) فاتصل (الاستاذ المسلماني) بمخرج العمل (د. خالد بهجت) فاجتمعنا في جناح الفندق الذي ينزل به د. زويل بناء علي ما استطاع مشاهدته من العمل وما سمعه عن مضمونه حيث كان يتناول ما يواجه البحث العلمي في مصر من متاعب واتصال ذلك بالفساد والجهل وبقوي ومصالح في الداخل والخارج.. وكان اللقاء شحنة قوية للجميع حقاً. بعدها بسنوات فوجئنا بحملة غبية ومغرضة ضد د. زويل بشأن مشروعه عن مدينة زويل - بعدما واجه مشروعه في فترة مبارك تعويقات استمرت وفوجئنا بهذا الرجل يحضر إلي مصر رغم بدء صراعه مع المرض - ليواجه الجميع بشجاعة وثبات حول كل ما اشيع رخيصاً.. وأكد بمنطق واضح استحالة ان تكون له مصلحة شخصية في دعوته للنهوض أو للنهج العلمي أو في إقامة صروح علمية وبحثية جادة.. وكانت هذه أكثر المفارقات إيلاماً بوصفها ممن أهتم بهم ومنحهم من وقته وجهده الكثير وبعدها انتهي الامر بهزيمته أمام المرض سريعاً وبشكل صارم.. وكانت وصيته أن يدفن في مصر!
- ويبقي السؤال: كانت هذه إشارة لأحلام (د. زويل) لبلده وأمته فهل نأمل بعد رحيله هكذا أن نجد من يهتم بها؟! قد يهتمون بالمبني الذي يحمل اسمه ويدعون للتبرع له.. ولكن ماذا عن أفكاره نفسها لتغيير الواقع والعقول؟! كان يعتبر أن البداية الأولية والحتمية بالتعليم الصحيح.. فكيف والتعليم ليس فقط علي حالة من التردي ودعم الجهالة وتفشي التطرف.. بل وصل إلي درجة غير مسبوقة.. ومازال جلاده علي كرسيه في حصن منيع؟
ماذا عن حكومة لا تملك بصراً ولا بصيرة في أي أمر من الأمور ووصلت في إدارتها الضريرة بالبلاد إلي حافة مخيفة معقمة من أي إحساس بالقلق والخطر!
رحم الله الدكتور أحمد زويل.. ورحم أحلامه النبيلة