درس السويس

ربما هى ذات المعركة برغم تقادم الزمن، فقد كان جمال عبد الناصر حاضرا برمزيته الأسطورية فى العيد الستين لتأميم قناة السويس، وفى ذات القاعة التى اعتلى الرئيس السيسى منصتها، واجتمع عيد التأميم الستون مع العيد الأول للتوسعات الجديدة فى قناة السويس، والتى تخلقها خلقا جديدا، وتضاعف طاقتها الملاحية، وتبنى من حولها ومن تحتها مشروعات نهوض جبارة، تزدحم بالموانى والمدن الجديدة والأنفاق المتطورة، وتبشر بإضافة حياة زاخرة بالعمران والتصنيع والتنمية، تدفع فوائض الكتلة السكانية المصرية إلى الشرق على جانبى القناة، وتصل ما انقطع مع سيناء التى ظلت مظلومة ومهجورة لعقود وقرون، وظل الخلاء السكانى فيها يغرى العدو باقتحامها كلما لاحت ظروف غزو، وتهديد الوجود المصرى فى عصب أمنه الرئيسى باتجاه الشرق.
وربما لا يفوت على أحد عاقل، اجتماع معنى الأمن إلى معنى التنمية والعمران فى الاحتفال الأخير، بل فى كل مظاهرة وطنية تجرى على ضفاف قناة السويس، فجمال عبد الناصر لم يكن حاضرا فقط بسيرته فى عيد التأميم الستين، بل فى إطلاق اسمه الموحى على أول حاملة طائرات يحوزها الجيش المصرى، وكانت الحاملة «جمال عبد الناصر» هى جوهرة العروض العسكرية المصاحبة للاحتفال، وكان جيش مصر العظيم هو بطل الملحمة فى البحر والجو والبر، وفى الإنجازات الهندسية والإنشائية الرفيعة المستوى، فلا يخفى دور الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وقيادتها، والتى صارت كلمة السر والماركة المسجلة لكل نجاح باهر، فقد قادت عملية حفر القناة الجديدة فى زمن قياسى عالمى، وتقود عمليات إنشاء الموانى والمدن وشق الأنفاق فى لمحة عين، إضافة لشبكة الطرق الحديثة والاستصلاح الزراعى للصحراء، وبدا الجيش فى ذلك كله وفيا لتقاليد إعادة بنائه من نقطة الصفر عقب هزيمة 1967، وقادرا على تنفيذ الشعار الأثير عن اليد التى تبنى والأخرى التى تحمل السلاح، فالجيش يعرف عدوه المستقر فى قلب عقيدته القتالية، وهو ذات العدو الذى يحارب ويسحق مضاعفاته الإرهابية الآن فى شرق سيناء، ويواصل عملية تحريرها فعلا لا قولا، ونشر قواته بكامل هيئتها حتى الحدود التاريخية لمصر مع فلسطين المحتلة، ويدوس مناطق نزع السلاح التى خلفتها معاهدات العار، ويواصل فى الوقت نفسه ملحمة إنجاز وبناء، يشرف فيها ويدير بانضباط وحزم وكفاءة وحرفية ناصعة، ويقود جيشا هائلا من المدنيين فى خلايا عمل لا تهدأ ولا تنام، يشارك بها ما يزيد على المليونى مهندس وفنى وعامل مدنى، وكما كسبت مصر الخمسينيات والستينيات جيلا من المهندسين والبنائين العظام مع ملحمة إنشاء السد العالى، فهى تكسب مع إنجازات وإنشاءات ومشروعات اليوم جيلا ذهبيا جديدا.
فهل تختلف صورة ما هو كائن عما كان قبل ستين سنة؟، قد يصح أن هنالك اختلافا فى التفاصيل، وهذا أمر طبيعى جدا، باختلاف الزمن والظروف والقدرات المتاحة لجيش مصر ولمصر كلها، لكن الاختلاف فى التفاصيل لا يخفى وحدة المغزى، فقناة السويس ليست مجرد مجرى ملاحى هو الأهم فى شرايين الدنيا كلها، والمياه التى تجرى فيها ليست مجرد التقاء زبد البحرين الأحمر والأبيض، بل هى ممتزجة بدم المصريين الذين حفروها بأظافرهم فى زمن الاستعباد والاستعمار والسخرة، ممتزجة بدماء المئة وعشرين ألف مصرى الذين ماتوا فى حفر مجراها الأول، وممتزجة بدم الشهداء المصريين الذين دافعوا عن حقنا المستعاد فى حرب العدوان الثلاثى بعد قرار التأميم، وممتزجة بدم الشهداء الذين اقتحموا موانعها فى حرب أكتوبر 1973، فقد دارت ملاحم كفاح المصريين الحديثة والمعاصرة من حول قناة السويس، وكما كان درس السويس نقطة تحول فى تاريخ العالم بعد قرار التأميم، وكان ضربة السيف الأخيرة التى قطعت ذيل الأسد البريطانى القديم، فقد كان نقطة التحول الجوهرى فى كسب استقلال مصر الوطنى الكامل، وفى قفزات تنمية هائلة غير مسبوقة ولا ملحوقة فى تاريخنا، تتابعت صورها وتجلياتها العفية من 1956 وحتى حرب 1973، بالتمصير والتأميم والتصنيع والتغيير والتحول الثقافى والاقتصادى والاجتماعى الشامل، والذى وجهت إليه الضربة الكبرى فى عدوان 1967، لكنها لم تقتل الحلم، بل أعيد بناء الجيش وعزيمة التنمية العصرية المتوالية، وحتى صارت مصر رأسا برأس مع كوريا الجنوبية فى معدلات التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجى برغم الأعباء الفادحة لتكاليف المجهود الحربى، فقد كانت الملحمة العظمى لجيش وشعب، وكانت اليد التى تبنى، هى ذاتها التى تحمل وتطور السلاح وتخوض به معارك النار، ثم كان ما كان من خزى السياسة التى خانت نصر السلاح، ومن الانهيار الشامل للقوة المصرية سلاحا وتصنيعا وتعبئة وعدالة بعد حرب 1973، ودخولنا نفق الانحطاط المتصل لأربعين سنة، وظل المغزى هو ذاته، فالإرادة الواعية بظروفها، وبالمستجدات والمخاطر من حولها، والمصممة على أهدافها وقيمها الوطنية الجامعة، هذه الإرادة هى التى تبنى وتسلح وتصنع، وبشرط التعبئة الشعبية الواسعة، وأولوية التصنيع والعدالة الاجتماعية، وكنس الفساد وجماعة «انفتاح السداح مداح» من أجهزة الدولة، وتوزيع الأعباء على كل بحسب ما يطيقه.
هذا هو «درس السويس» الذى يظل حاضرا لا يغيب، ونظنه كان حاضرا فى وجدان الرئيس السيسى، حين تحدث فى الاحتفال المهيب، والذى اسمى عن حق باحتفال الإرادة الوطنية، وكان الوجدان الوطنى للسيسى مما لاخلاف عليه، فتعظيم قوة الجيش، والاندفاع فى إنجاز المشروعات الكبرى، مما لا يختلف عليه ولا فيه أحد، وإن جاز الخلاف فى الأولويات، لكن الإنجاز الوطنى يظل معلقا فى الهواء، وعرضة للتجريف والتبديد، ما لم يستند إلى قاعدة اجتماعية شعبية راسخة واسعة، تحميه وتكفل دوامه، وهذه عقدة النقص الظاهرة فى سياقنا الآن، والتى تستلزم إعادة النظر فى الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية الخاطئة كلها، وكسب عقول وقلوب الرأى العام الغاضب لألف سبب، فالسياسة الوطنية بحاجة إلى دعم ناسها، والسياسة من غير ناس «تنداس».