خاطرة

سلفني تلاتة جنيه

للفنان  (علي الكسار) رحمه الله.. فيلم باسم «سلفني تلاتة جنيه».. وقد بدا لكل من يشاهده أن (عثمان عبدالباسط) وهو اسمه الفني في كثير مما قدمه - قد تعلقت حياته ومصيره هو وأسرته بالحصول علي هذه السلفة من أي مصدر.. حتي إن مسعاه المستميت لتحقيق هذا الهدف عرضه إلي مفارقات ومصائب بل ومهالك أو شكت أن تقضي عليه وعلي مصير أسرته الصغيرة!!

لا أعرف إن كان هناك ما نسميه بالمكر الجميل في الفن وراء اصرار عثمان عبد الباسط هذا وقتها.. لكني أعرف أن اصرار عثمان هذا الغريب يذكرني بإصرارنا علي القروض وكيف وصل الاصرار عليها إلي ان تكون أمام الحكومة الملاذ الوحيد والأوحد إزاء المشكلات التي تراكمت مثلما تراكمت علينا وعلي الآتين من بعدنا كم من الفوائد مع الاقساط بلا حصر.

هل ضاقت بنا السبل الي هذا الحد حقاً! هل فقدنا القدرة علي التفكير في نهج آخر أو أن نفكر أولاً فيما أودي بنا إلي طريق مسدود بلا مسارب؟

لماذا نتمسك بنهج عثمان عبد الباسط ومصر أكبر إرثاً وأكبر قدراً وأعظم مقدرات من أي طرف لتمد إليه يدها مهما حلّ بها؟ كيف نسينا تاريخاً قريباً كسرنا فيه أمماً تكابرت وتآمرت!

كيف نسينا تاريخاً بعيداً واجه فيه هذا الشعب محناً وشدائد أودت أقل منها بشعوب جمة طمستها ولفظتها خارج التاريخ والجغرافيا.

- وليكن الأقرب إلي وجدان وذاكرة الناس ما يرويه لهم القرآن الكريم عن شدة مرت بمصر كما جاء عنها في تفسير نبي الله يوسف عليه السلام لحلم في قوله تعالي «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ».

لم تكن تلك الشدة التي أشار إليها تفسير الحلم هي الأولي أو الوحيدة في تاريخ مصر الطويل إذ مرت بكثير من الشدائد كما كانت في فترات أخري سلة غلال العالم، ولكن العبرة الاهم في حكاية يوسف عليه السلام معنا حين صار أميناً علي خزائن الارض «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ».. حين كان حفيظاً أميناً علي تلك المسئولية.. بمعني أنه كان يسوس الازمة حتي يصل بمصر إلي بر الأمان.. لا أن يسوس الناس ويرهقهم بأعبائها.. فهم عماد محاولته وشركاء فيما يصنع وهدف الإنقاذ.

ونعود إلي عثمان عبدالباسط ونسأل: ها هو الشعب ذو الجلد والذي صنع كل هذا التاريخ الطويل ومازال قادراً....... لولا ركام من الشدائد يحاصره؟.. فمن يسوس هذه الشدائد؟ ويزيل الركام وفكر عثمان عبد الباسط؟

- قلنا ونعيد القول كما قال غيرنا ومبكراً: لا إنجاز وطنيا بغير سياسة وطنية.. لا فعل حقيقيا بغير بصيرة ولا بصيرة بغير رؤية سياسية حقيقية بمن يجيد تحريك الواقع وقواه بوعي وخبرة.

لا وعي ولا خبرة ولا كفاءة.. قيادات ليس منها من يصلح ليسوس أيام الشدة هذه.. قيادات معقمة من أي إحساس بالخطر.. ويضيقون من إبداء أي إحساس بالخطر حتي لو كانت تعليمات القيادة وهي تعبر عن قلقها.. وفي تلك الحالة فقط يلجأون لأمرين حاضر يا فندم.. ينفذ.. ثم نتائج عكسية لأن التعليمات ألقي بها عند أول ناصية.. الامر الثاني إن أحكم الخناق وحم القضاء ولابد من حل كان اللجوء إلي جلباب عثمان عبد الباسط «قرض ونخلص».

ليس هذا طعنا في وطنية أي منهم.. ولكن ماذا يفعل من لا يملك خيالاً يحكمه وعي سياسي. ولا يملك كفاءة ولا خبرة ولا حاجة خالص.. ويثبت عقمه ومع ذلك نجده مازال في مكانه بل يؤتي به مع أي تغيير أو تجيئنا نسخة أخري منه مطابقة!

أذكر أنني منذ شهور كتبت إلي السيد محافظ البنك المركزي  بعدما خفض قيمة الجنيه المصري اسأله بعد تداعيات ذلك: ماذا فعلت بنا.. وبدا أن اعترضي إزاء اجرائه ثم تصريحاته بعدها نوع من الجهل بمالا أعلم من أسرار الاقتصاد.. وسألت الله ساعتها أن أكون من الجاهلين.. ولكن مرت الأيام سراعاً تجرجر مصائب لا قبل لنا بها تنتهي بنا أخيراً عند باب صندوق النقد الدولي.. وهو آخر ومنتهي أمل عثمان عبد الباسط في بحثه عمن يقرضه (3 جنيه)وسوف يكون الصندوق كريما معه ويحقق أمنيته (3 جنيه) وفوقهم بوسة وشهادة حسن سير وسلوك،.. ولكن عثمان لا يدري أن الصندوق الرحيم سيرمي به هو وزوجته وحماته إلي عرض الطريق خارج مسكنه المتواضع.. ويظل يطارد عثمان حتي يدفعه إلي بيع جلبابه الوحيد وبلغته ولحافه البالي والحلة والطست إن وجدا.. وربما لا يدعه إلا حين يعود كما ولدته أمه.

سيدي الرئيس.. ادركنا وأنقذنا من عقلية عثمان عبد الباسط... مصر الكبيرة تملك عقولاً أخري فذة وشباباً رائعاً وشعباً يملك أن يبهر العالم حين تطلق طاقاته.. وليس أقدر من الحرية لاطلاق طاقات الشعوب.