د. عبد المنعم فؤاد يكتب

المسيحيون في عيون المسلمين

حينما اتحدث عن المسيحيين في عيون المسلمين لا أجامل أحدا، فالمجاملة علي حساب المعتقد عاقبته وخيمة : إنما أكتب ما أدين به أمام ربي، وتعلمته من عقيدتي -، ويعتقده كل مسلم تدبر القرآن، وتفهم سنة خير الأنام.، فالمسيحيون في معتقدهم يخالفون المسلمين، والمسلمون يخالفون المسيحيين في المعتقد أيضا،، وهذا أمر يقر به الفريقان، بل هو نقطة المفارقة المبينة للهوية الدينية بتسليم الجميع ، ومع ذلك فالإسلام أمر باحترام عقيدة الآخرين ، وعدم التعرض لأصحابها، وتم تسجيل ذلك في قوله تعالي ( لكم دينكم ولي دين )-.

لذلك : فهذه المنطقة التعبدية، والعقدية لا يصح الاقتراب منها، أو التصوير - كما يقال- - - فاللعب في منطقتها خطر داهم - لذا وجب التبيه -.

لماذا أقول هذا ؟

لأن هناك من يتصيد للمسلمين، والمسيحيين علي أرض مصر المباركة، ونري شحنا إعلاميا غريبا، وعجيبا يهدف بعضه للإثارة لا الإنارة : كلما وقع خلاف في أي قرية، أو مدينة بين أخوين مصريين نري من يستدعي الديانة مقرونة باسم صاحبها، ويصطرخ بين الناس بأن الخلاف في المعتقد هو السبب، وأن الإسلام يُحرض أصحابه علي المسيحيين، أو أن المسيحية تُحرض علي المسلمين.. وهذا أمر غريب، وعجيب.. فلا ديانة الفريقين بها ذلك، ولا طبيعة أهل مصر تستقرفيهم ثقافة العنف، بل قد يكون الأمر بسبب مخالفات قانونية، أو عادات بشرية، لكن الدين في الحقيقة لا علاقة له بالأمر، ومن ثمّ : وجب وضع الأمور في نصابها، والنظر إلي أمن الوطن، ومصالحه العليا..

فالمسيحيون لا يمكن أن يُفرطوا في المسلمين، والمسلمون لا يمكن أن يستهتروا بإخوانهم المسيحيين ، والتاريخ يثبت ذلك: فيوم أن فكر المسلمون بقيادة الرسول- صلي الله عليه وسلم- في أرض يشعرون عليها بالأمن، والأمان كانت الحبشة التي يقطن بها المسيحيون، إذ قال الرسول لأصحابه: إن بها ملكا

لا يُظلم عنده أحد، (وهو النجاشي)، وبالفعل احتضن النجاشي.

اصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يقبل أن يسلمهم لكفار مكة بعد أن استمع لسورة مريم من كبير الوفد الإسلامي: جعفر بن أبي طالب، وقال : والله إن هذا الذي جاء به نبيكم، وما جاء به موسي، وعيسي -عليهما السلام - ليخرج من مشكاة واحدة.. وعاش المسلمون بين المسيحيين آنذاك في أمن، وآمان.

فالمسيحية هي أول من احتضن الإسلام في مهده الأول.

وفي مصر : عرف المسيحيون مدي قوة العلاقة بين الإسلام والمسيحية، ويوم أن فكروا في رفع ظلم الرومان عنهم، وهم علي دينهم : فتحوا صدورهم لعمرو بن العاص، واستقبلوه خير استقبال، وفي المقابل : عمرو، وأصحاب النبي الذين جاءوا معه : قدّروا ذلك: فبني عمرو مسجده بجوار الكنيسة ليكون ذلك دليلا علي أن الإسلام يُقدّر أتباع المسيح، ولا يضيق ذرعا بكنائسهم، ولا دور عباداتهم، بل ذهب عمرو، وأصحاب النبي من كبار الصحابة لينظفوا الكنيسة، ويُجمّلوها أكثر مما هي عليه : لاستقبال البطريرك ( بنيامين ) الذي طرده الرومان، وأرجعه عمرو،ليدلل للعالم كله :

أن وحدة المصريين مستمرة، وإن اختلفت دياناتهم..،

وما فعل عمرو ذلك إلا لعلمه أن أتباع المسيح لهم مكانة خاصة في عيون المسلمين دون أتباع أي ديانة أخري، والرسول -عليه الصلاة والسلام- هو الذي بين هذه المكانة، وترجمها لواقع ملموس يشهد به التاريخ:

فهاهم نصاري نجران يقدُمون في وفد علي مسجد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فيستقبلهم المصطفي خير استقبال، ويكرمهم، ويحسن وفادتهم، وساعة أن حان وقت صلاتهم أرادوا الخروج من مسجد النبي ليقيموا صلاتهم فلم يقبل المصطفي ذلك، بل دعاهم ليؤدوا عبادتهم داخل مسجده، وهو يجلس بجوارهم ينظر إليهم، فلو كان قدر أتباع المسيح هينا في عين النبي فكيف يقبل ذلك، ويرضي عنه -عليه الصلاة والسلام - ؟ إنها لبرقية نبوية يرسلها النبي عبر السجلات التاريخية لكل أفاك أثيم يزعم أن الإسلام يُحرض علي المسيحيين، ولا يقبل بإقامة شعائرهم وعباداتهم !.

بل هناك رسائل قرآنية تبين أن رسولنا -عليه الصلاة والسلام- كان يغار علي المسيحيين، ولا يقبل بهزيمتهم،، أو الاعتداء علي واحد منهم، فهم أقرب الناس للمؤمنين مودة بنص القرآن الكريم:

( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري..) سورة المائدة / 82-، ويوم أن هُزم الروم، وهم أتباع المسيح - عليه السلام - من الفرس عُبّاد النار : غضب النبي، وحزن حزنا شديدا هو، وأصحابه بسبب ما أصاب المسيحيين من هزيمة أنذاك، وفي المقابل فرح المشركون عُبّاد الأوثان في مكة بنصر الفرس، وما لبث حزن النبي طويلا: إذ نزل جبريل يُبشر المصطفي بقرب نصر أتباع المسيح، بل، وفي بضع سنين، وتلا عليه مطلع سورة الروم ليطمئن قلبه،، وقلوب أصحابه، ومعلوم أن هذه السورة من السور المكية التي يدور محورها الرئيس حول قضية العقيدة الإسلامية، والتدليل علي صحتها دون غيرها، شأنها في ذلك شأن كل السور المكية، ومع ذلك لم يرفض الرسول حق اعتقاد المسيحين بعقيدتهم، بل حزن علي هزيمتهم فنزل قوله تعالي : ( الم .غلبت الروم في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله... ) - الروم - 1-4-، ونلحظ : أن نصر الله هنا الذي سيفرح به المؤمنون ليس نصر المسلمين، بل نصراتباع المسيح . فلو كان هؤلاء لا مكانة لهم في عيون المسلمين، فكيف يغار نبينا عليهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم - مع أنهم مخالفون لمعتقده - ؟

ألا فليعلم المرجفون: أن أواصل المحبة، والتعايش بين المسلمين، والمسيحيين: ستظل قائمة في مصر بأمر ربنا، وبسنة نبينا، وأن الإسلام لا يعرف ما يروجه المتطرفون من أفكار تُقُطع أواصر الرباط الأخوي بين أبناء الوطن باسم الدين، والدين من ذلك براء

وعن مكانة المسيح عليه السلام، وأمه في الإسلام يكون حديثنا القادم إن شاء الله تعالي -.

>>  أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر الشريف