يمر العالم العربي خلال تاريخه كل قديمه وحديثه بأسوأ مما يعيشه الآن: هل لذلك علاقة بما ذكرناه في المقال السابق من تفرد مصر وشعبها بين كثير من شعوب الأرض.. وسمتها في القدرة علي تجاوز الهزائم أو المحن؟!.. نعم.. ولذلك علاقة بالدرجة الأولي بما يجري في العالم العربي حولها. ولقد اكتفينا بتتبع ذلك بداية من العصر الحديث من انسلاخ مصر عن الحكم العثماني وبناء مصر الحديثة مع «محمد علي» وما جري بعد هزيمته من مواجهات مرتبطة بالعالم العربي ومحاولة تجاوزها التي تأتي دائما من مصر الحراك بداخلها نخبة أو جموعا.
وقد وقفنا عند نكبة عام ٤٨ ولننظر الآن كيف حولت مصر الهزيمة إلي وجه آخر للمشهد وعلي نحو مذهل بعد أربع سنوات فقط من هذه الهزيمة العربية فحين عاد شباب الجيش المصري وفي حلوقهم مرارة هذه الهزيمة إلي جانب مرارة التردي في الداخل فوجيء الجميع بثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ حين تحرك نفس الشباب واستنهضوا الشعب المصري خلفهم. وعندما جاء قانون الإصلاح الزراعي وقوانين العمال بعد شهر من الثورة تقريبا كمؤشر علي توجه هذه الثورة.. ظهر بوضوح قلق الغرب وقلق الكيان الصهيوني علي وجوده الوليد بالاغتصاب والدعم الغربي.. كانت الثورة قد فرضت نفسها بانحيازها مبكرا للأغلبية من المصريين وشرعت في إعادة تحديث مصر وفق تغيرات جذرية في البنية الاقتصادية والاجتماعية.. غير أن إسرائيل بدأت في التحرش بمصر.. رغم أن عبدالناصر كان يتحاشي الصدام بها قبل أن تستكمل مصر عناصر قوتها ودون أن يغفل ما لها من خطر علي مصر وعلي العالم العربي كله. وإذ يتزايد تحرش إسرائيل بنا.. ويرفض الغرب حينها أن يمدنا بالسلام لمواجهة العدوان المتكرر يتوجه عبدالناصر إلي الكتلة الشرقية وقتها.. وتتصاعد عندها المواجهة المزدوجة مع إسرائيل والغرب وخاصة بعد محاصرة محاولة مصر بناء السد العالي مما دفع حماس المد الوطني وحتمية الرد.. إلي أن يعلن عبدالناصر تأميم قناة السويس رغم أنها مخاطرة وخاصة تزايد العداء لمصر من ناحية التحرر الوطني الذي دعمته في العالم العربي وأفريقيا.. كان ذلك موجها لفرنسا وانجلترا بالذات ودعم القضية الفلسطينية بالنسبة لإسرائيل.. ولذا تآمر ثلاثتهم وكان العدوان الثلاثي في ١٩٥٦ حيث تقف خلفه زيضا قضايا في العالم العربي أي نفس الارتباط الدائم في مواجهات مصر ومثلما هب الشعب المصري في مواجهة هذا العدوان هبت الشعوب العربية حمام ومؤازرة.. وانتهي الأمر بهزيمة قاسية للعدوان.. وانتصار سياسي باهر فتح الطريق واسعا أمام زعامة مصر وعبدالناصر في كل العالم العربي بل وخارجه ما يدعم هذا الانتصار السياسي ويضيئه أنه صار تحولا تاريخيا مهما إذ طوي صفحة الاستعمار القديم.. وكان علي رأس انجلترا وفرنسا! ورغم اختلاف الحسابات بين أطراف في الغرب حول هذه النتيجة إلا أن إحساس الغرب كله بخطورة مصر تزايد.. وظل التآمر عليها يتسع ويتخفي ومصر مستمرة في مسيرتها خاصة بعد نجاحها في معركة السد العالي وإتمام بنائه إلي جانب فتحها الباب واسعا في مواجهة التبعية ومشاركتها في دعم فكرة الحياد الايجابي.. وعقد «مؤتمر باندونج» التاريخي.. وكان علي رأسه «عبدالناصر ونهرو وتيتو».. وبذلك زادت خطورة مصر وعبدالناصر واتسع العداء. وكما كان الكيان العربي ماثلا في كل ما ذكرنا وبالذات ما يتعلق بقضية فلسطين.. كان ما يحدث في العالم العربي وبالذات في «سوريا» عنصرا جوهريا في استدراج مصر إلي حرب ٦٧ المباغتة والتي اعتبرها الغرب وإسرائيل ضربة قاتلة وفاصلة في هذا الصراع وأن مصر وتأثيرها العربي والخارجي انتهي إلي غير رجعة! لكن هذا الشعب العجيب إذا به يتمسك بالقائد المهزوم والذي سلم بمسئوليته الكاملة عن الهزيمة وتنحيه! كيف ادركت هذه الجموع الزاحفة في الليلة المعتمة لهذه الهزيمة ان هذا القائد المهزوم سوف يعيد بناء الجيش الممزق.. وكيف سيبدأ علي الفور في حرب استنزاف مرهقة للعدو ممهدا بها لحرب ٧٣ العظيمة! ولكن هذا ما حدث!.. ومثلما راهن الشعب علي بعث جديد سيبزغ علي يد القائد المهزوم.. راهن القائد المهزوم علي شعب جريح.. لكنه شعب لم يفقد إيمانه ولا ثقته في تحقيق معجزة تبدو شبه مستحيلة.. لكنها تحققت في أكتوبر ١٩٧٣. هكذا كانت مصر.. وهكذا كان شعبها.. ينهض فينهض العرب.. تكبو فيكبون وهو ما تجلي قبيل حرب ٧٣ وخلالها.. لكن الغرب لم يتوقف وإسرائيل وبعد درس ٧٣ القاسي عن محاولة تدمير العرب نهائيا ووصل الأمر بهم إلي إطلاق كل الشرور من عقالها بما فيها الإرهاب الأسود وحتي بدا الآن أن الهدف هو الإجهاز علي هذه الأمة وتمزيقها شر ممزق بتدبير ظاهر وخفي. فهل تملك مصر والصورة علي هذا النحو في فظاعتها وسواد ما بعدها.. أن تتقدم كما عودت الجميع علي قيادة الأمة علي تجاوز المحنة كما كان الحال في حلقات من التاريخ سابقة؟.
هل تملك مصر في هذا الظرف غير المسبوق علي امتداد الوطن العربي؟ هل تملك وهي تعاني أيضا ما تعاني وما يحيط بها من ضغوط وتحولات غريبة وخاصة ما حل بالعقل المصري من تشوه.. وما حل بالإرادة.. حتي أننا يمكن أن نسأل هل مازالت هي المحروسة الفريدة المتفردة القادرة دائما علي المبادرة ومواجهة ما يحاك.. هل مازالت هي حقا؟! أم أن ثورة ٢٥ يناير كانت آخر ومضة في الشخصية العبقرية ثم حل الانطفاء.. حقائق كثيرة تغيرت وزيف اتسع وتراكم.. حقيقة واحدة لم تتغير وهي أن ما حل بالواقع العربي من أهوال.. مازال تجاوزه مرهونا بمصر.. أو الهلاك للجميع.
الشرط الأساسي للمواجهة الصحيحة.. هو الشفافية الكاملة دون أي خداع.. الشفافية المفتقدة.. وإغلاق كل أبواب الطبل والزيف والانتهازية وعندها قد نعثر علي المحروسة.. لتعبر بنا وبالعرب إلي النجاة.. فإلي حديث لاحق.