لا تستخفُّوا بما يمثله العامل الدمياطي حين يتضرر مما هو فيه.. بعدما كان يفخر بنفسه وتفخر به مصر كلها، إن خذلانه في هذه الحالة هو خذلان لوجه مصر الحقيقي الذي سعي الآن لنسترده مشرقاً معافي فليس حديثي الآن عن هموم دمياط ببعيد عن حديثي السابق عن المحروسة وسيري البعض بداية أنني سأسوق حديثاً متحيزاً! بالضرورة لمسقط رأسي ومتحاملاً علي الدولة التي (وهات يا طبل).. وأقول مهلاً.. فلا شك أن الدولة احست بوجود مشكلة هناك تتعلق بصناعة الموبيليا فطرحت فكرة مدينة الأثاث وهذا رد غير دقيق علي المشكلة اما المشكلة في حقيقتها فلا أظن أن مدينة الاثاث هي حل حقيقي.. وقد تكون باباً لتكرار المشكلة الحقيقية بشكل أشد قسوة.
- دعونا أولاً نستحضر دمياط وكيف كانت، مثلما استحضرت ما كانت عليه المحروسة أيام عزها وإشراقة وجهها الصبوح.
كانت دمياط تسمي في عصر الفراعنة (تام جيت) أي بلد الشمال أو (تام اتي) أي مدينة المياه الجارية وكانت المقاطعة السابقة ضمن عشرين مقاطعة في الوجه البحري كانت من الثغور التي تربط مصر بالعالم الخارجي وكان هذا سببا لاحتكاكها بحضارات مختلفة قديمة اكسبتها حيوية خاصة وقد أدي ذلك الي صقل خبرتها في التجارة وتفردها في عدد من الصناعات الهامة حتي أن كثيراً من اليونانيين نزحوا إليها وخاصة بعد دخولها تحت حكم الإغريق لمدة ٣٠٠ سنة وصار اسمها.. (تام ياتسي). غير أن الحكم الروماني حين صارت مصر إليه اساء معاملة أهلها وإعتبرها مجرد سلة غلال وكتان وكثير من المحاصيل وفرض الكثير من الضرائب.. مما أشعل الثورات ضدهم وكان منطلق بعضها من دمياط.. وعندما دخلت روما في المسيحية في عهد قسنطين عام ٣٢٥م.. فوجئوا برفض المصريين لما حاولت روما فرضه عليهم من مذهبهم في المسيحية وتمسكوا بما إرتضوه من فهم للمسيحية بما يتفق وطبيعتهم وثقافتهم.. ورغم نشر روما للكتابة في دمياط وجولها اسقفية إلا أنها كانت الأكثر تمسكا بمذهب المصريين في المسيحية ودفع المصريون ثمناً غالياً لهذه المقاومة حتي جاء الفتح العربي عام ٦٤٢م بقيادة (المقداد بن الأسود)من قبل عمرو بن العاص وكان علي دمياط رجل يدعي (الهاموك) من أقارب المقوقس إحتشد لمواجهة الفتح العربي ومقاومته لكنه هزم في النهاية.. حتي إطمأن المصريون لهذا الفتح وتوافق أغلبهم مع هذه الديانة عكس ما كان الحال مع الرومان غير أن روح المقاومة في طبيعة المصريين مثلها ما جري في دمياط من مقاومة بعض الولاة ومظالمهم حتي تدخل الخليفة واستبعد من بغي.. من وقتها باتت دمياط قلعة لمصر في مواجهة اي بغي أو عدوان ويؤكد ذلك بجلاء المواجهات بين شعب دمياط والحملات الصليبية التي بدأت مبكراً عام ٧٢٠م وعام ٧٢٨م.. أما الحملة الصليبية الثالثة فقد حققت دمياط معها انتصاراً سجل تاريخياً بعون من صلاح الدين الأيوبي وكان مازال وزيرا.. ثم الحملة الخامسة وانتصرت فيها مصر بدمياط بدعم من الملك الكامل اما الحملة السابعة فقد ضربت دمياط المثل في التصدي خلال معارك ضارية انتهت بهزيمة الحملة وأسر (لويس التاسع) بدار ابن لقمان حيث تقيم (شجر الدر) بالمنصورة لتدير وتراقب المعركة بعد موت الملك الصالح
- الغرض من هذا الحديث أننا نريد أن ندلل علي أن الصبي الذي تربي علي الصلابة والجلد والتفوق يتحدد مستقبله وفقاً لذلك.. وهكذا تاريخ المدن والأمم.. هكذا صيغت الشخصية الدمياطية علي الصلابة والجلد والتفوق.. وبهذا تميز العامل الدمياطي بالذات.. لتكون له هذه السمعة أو (الصيت) في العالم كله.. ونذكر أن (سليم الأول) العثمانيحين فتح مصر كان أهم ما حرص عليه تجميع أكبر عدد من الصناع الدمايطة لتتألق بمهاراتهم عاصمة الخلافة العثمانية.
- ظلت دمياط زمناً طويلاً تتباهي بمهارة ابنائها في صناعات شتي أهمها الاثاث أو (الموبيليا) وظلت العائلات بكل مستوياتها في مصر وخارجها تفخر وتتفاخر بأن (شوار) عروسهم من دمياط.
صارت دمياط قلعة صناعية شهيرة تتصدر شهرتها الموبيليا وتنمو حولها في طموح صناعات أخري كالأحذية والحلويات وغيرها - تصنع وتصدر - حتي جاء زمن الانفتاح ونمت معه طبقات طفيلية جعلت الهيمنة علي المدينة ونشاطها لكبار التجار.. مما أتاح استغلال الصناع الصغار وورشهم وتفاقم ذلك إلي ماهو أدهي حين فتح الباب لاستيراد الاثاث الصيني والتركي بأدني سعر وبخامات أدني.. ما زاد من الانكسار اصاب صناعة الدمايطة والتي حاولوا التمسك بجودتها رغم أن الكبار تمادوا في بخس أثمانها إعتماداً علي ما تم استيراده من أثاث اجنبي رديء الخامات رخيص الثمن زاد الطين بلة ما دخل السوق من خامات في الأخشاب وغيرها ذات مستوي سييء لا يقبل به الصانع الدمياطي لأن أي تنازل من جانبه فيما تميز به يعتبر هدماً لسمعته وإهانة له ولمهنته وهذا أكثر ما يؤلمه وأفدح من تدهور أحوال المعيشة وما يتهدد أكثر من ١٥٠٠ ورشة صغيرة بالاغلاق الان بعضها أغلق فعلاً وتحول إلي محل بقالة. أو خضراوات.. والبعض في طريقه إلي الإغلاق!
لا ننكر أن فكرة مدينة للأثاث تنطوي علي إحساس الدولة بوجود مشكلة. لكن الحقيقة أنها فكرة لم تعتمد علي دراسة حقيقية للواقع وإعتماداً علي حوار مع أصحاب المهنة الحقيقيين.. فمن الخطأ أن نفكر في فتح مدينة للأثاث.. في ظل الفساد الذي مازال يقاوم بشراسة أي محاولة للتغيير.. إذ سنجد كبار التجاره يسيطرون علي هذه المدينة باساليبهم وبغرف التجارة والصناعة أو غيرها وربما تتكرر المأساة علي نحو أدهي - وفي ظل الفساد المتغلغل في مفاصيل الدولة - يقام علي اطلال المأساة القديمة صرح جديد للفساد لا قلعة شامخة للصناعة كما نريد.