في حواره التليفزيوني بمناسبة مرور سنتين علي حكمه، وعد الرئيس السيسي بإخلاء سبيل المزيد من الشباب المسجونين في قضايا سياسية، وأشار إلي قراراته السابقة بالإفراج عن ثلاث دفعات من قبل، دارت أعدادها حول المئات، وإن كنا ننتظر هذه المرة قرارا أوسع نطاقا بكثير، يشمل آلافا من الشباب الواقعين تحت مطرقة مظالم هائلة، اعترف بها الرئيس نفسه مرات، ووعد بإنهائها، وهو ما نتطلع إليه، وبصرف النظر عن جدال الجنائي والسياسي في القصة كلها، فكل القضايا السياسية موضوعة في صورة جنايات وجنح، وقد أشار الرئيس إلي أن تسعين بالمئة من المساجين جنائيون، وضرب مثلا باتهامات بالسرقة، وهذا ليس موضوعنا بالطبع، ولا الموضوع في المتهمين بالعنف والإرهاب الفعلي، بل جوهر مطالباتنا المتكررة ظاهر بغير التباس، وهو إخلاء سبيل آلاف المحتجزين في غير تهم العنف والإرهاب المباشر، ووقف تحويل السجون السياسية إلي مفارخ إرهاب جديدة.
وقد اعترف الرئيس بحق الشباب في التظاهر السلمي، وإن دعاهم إلي الأخذ بالقانون، وتقديم إخطارات التظاهر إلي الجهات المعنية، وهذا كلام يبدو معقولا ومستقيما، وإن كان الرئيس لابد يعلم أن الأمور لا تجري بهذه الطريقة في مصر الآن، وأن عشرات الوقائع والنماذج تقول العكس، وأن وزارة الداخلية لا تسمح بالتظاهر لغير مواطنيها «الشرفاء جدا»، ولا تعترف عمليا بإخطارات التظاهر التي نص عليها القانون، ولا تقدم غالبا ما يفيد أنها استلمتها، وحتي يتمكن المتظلمون من عرض النزاع علي القضاء المستعجل كما ينص القانون، وهذا الإغلاق الفعلي للطريق القانوني المفترض، هو الذي يصنع المشكلة، ويفاقم ظاهرة عزوف الشباب عن الطريق المرسوم، ومن ثم مضاعفة حملات القبض العشوائي، فأنت لا تستطيع إغلاق كل الطرق في ذات الوقت، وإذا أنت أغلقت طريقا دون أن تفتح طريقا آخر، فإنك تصنع الزحام والتوتر والتهاب الأعصاب، وتكون سببا في مظالم مرعبة، تلحق بآلاف الشباب وأسرهم، وتخلق احتقانا اجتماعيا، يملأ قلوب الآلاف بالأحزان، وهو بعض ما ندعو الرئيس إلي تفكيكه، واستخدام صلاحياته الدستورية في إخلاء سبيل المظلومين بدعوي مخالفة قوانين سياسية، ثم أن قانون التظاهر مطعون عليه دستوريا كما لابد يعرف الرئيس، ومراحل التقاضي طويلة جدا، وتستغرق سنوات حتي الحسم في أعلي درجات المحاكم، وغالبا ما تنتهي محكمة النقض إلي إلغاء أحكام الجنايات والجنح السياسية، وبدون التعويض عن ظلم قضائي يلحق بالضحايا المحبوسين لسنوات، وهو ما يوجب التصرف بمقتضي العدالة التي هي أرحب نطاقا من القانون، فالقانون نفسه قد يكون ظالما كما هي حالة قانون التظاهر، وجهات إنفاذ القانون قد تلجأ إلي سلوك انتقائي كما هي أحوالنا، والعدالة توجب التدخل الرئاسي في حالة الشباب المظلوم المسجون بتهمة مخالفات التظاهر بالذات.
وحسنا قال الرئيس في حواره الأخير، حين أكد أن المشكلة لاتزال قائمة في التواصل مع الشباب، خصوصا وهم أغلبية المجتمع المصري، ويعانون من أوجاع مصر الكبري، وعلي رأسها البطالة وافتقاد العدالة وتفشي الفساد وانسداد الأفق، وافتقارهم لنعمة الأمل التي تبشر بها إنجازات كبري لا تنكر، وهذه أوضاع عامة لا تحل بالقطعة، وتستلزم سياقا شاملا لنهوض وطني جامع، وإقرارا لقواعد الحرية والعدالة والاستقلال والعلم والتصنيع وتكافؤ الفرص وكنس الفساد، والدفع الطوعي لملايين الشباب إلي خوض ملحمة بناء مصر من أول وجديد، وقد لا تكفي فيها الحلول باختيار عينات، وعلي طريقة دعوة شباب «الأولتراس» مثلا إلي سلوك إيجابي، أو توسيع جهود وزارات الثقافة والشباب والرياضة، وكل ذلك قد يكون مهما، ولا بأس به، لكنه لا يغير البيئة النفسية والاجتماعية للشباب بما يكفي، فالشباب عموما ينفر من الوصاية، ويريد ظروفا تتحقق فيها حرية الاختيار، وليس فرض الاختيارات المعلبة، وعلي الطريقة التي يراد بها إجراء انتخابات المحليات المقبلة، وبقوائم مطلقة مغلقة، لم يعد يأخذ بها أحد في الدنيا الديمقراطية ولا شبه الديمقراطية، وتتحكم بها أجهزة الأمن في العادة، وتهدر فرص وصول الشباب لمواقع القيادة باختيارات تنافسية حرة، وتسد الطريق علي عملية فرز وتمكين القيادات الطبيعية في معارك الهواء الطلق، وليس القيادات المصنوعة علي عين الأوصياء إياهم.
والفروق هائلة بالطبع بين فتح طرق التطور الطبيعي، وبين طرق صناعة قيادات شبابية في حضانات، تماما كالفرق بين «زراعة الصوبة»، والزراعة في المناخ الملائم، فنباتات الصوبة غير نباتات الشمس، نباتات «الصوبة» إذا تعرضت للهواء تلفت، وإذا وضعت في درجات الحرارة الطبيعية احترقت، والمغزي مفهوم، فلا يمكن صناعة قيادات شبابية في حضانات ولا في «صوبات»، و»شباب الصوبة» غير الشباب المصري الطبيعي المكافح المعاني، وقد لا يعترض أحد ـ مثلا ـ علي ما يعرف باسم برنامج التأهيل الرئاسي للشباب، فالمعرفة في كل الأحوال شئ مفيد، وكل برنامج دراسي قد يرقي الوعي والسلوك، لكنه لا يصنع شبابا قياديا بالضرورة، خاصة مع نوعية وموارد الدارسين، وغلبة برامج التأهيل للبيزنس والإدارة علي الوعي بالسياسة، وتواتر أدوار «فرافير» الجامعة الأمريكية وعصافير الأجهزة الأمنية والإدارية في أوساط الدارسين والمدرسين، ثم أنه لا عدالة ولا تكافؤ فرص في وعد الخريجين بمناصب قيادية في الحكومة، والتعسف في فرض أقلية مختارة ـ مما زاد العدد ـ علي ملايين الناس والشباب، وقد شهدنا نماذج عديدة من الشباب النصابين باسم الرئاسة، بل أن أحدهم حصل علي تكريم رئاسي ببيانات خاطئة، ثبت تزويرها بعد وقوع الفأس في الرأس، ناهيك عن ما هو مشهور من إدانة شاب عين مساعدا لوزير الزراعة السابق في قضية الرشوة الشهيرة.
الخلاصة، أن قضية الشباب أعقد من الحلول المبسطة التي تقدم لها، وقد تنتهي حلول بعينها إلي تفاقم المآسي، وتذكروا أن جمال مبارك وجماعته كانوا يريدون «وراثة الحكم» باسم الشباب.