تعودت ألا أبدي رأياً لنفسي أو لغيري في أي عمل فني قبل أن يكتمل.. حتي يستقيم الرأي فيه وتتبلور أمامي رؤاه إن كان يملك رؤية أو معني ما.. فقد تأتي البدايات غير مبشرة ثم تتكشف جودة العمل ومقاصده حين اكتماله.. أو العكس.
وإذ مد الله في عمري لأبلغ هذا الشهر الكريم، فوجئت بما أطاح بمبدئي سالف الذكر.. فمنذ الليلة السابقة علي أول رمضان وجد المشاهدون أن كل القنوات مشتعلة بحريق هائل أحاط بنا وحاصر الشاشات جميعا في هجمة من الإعلانات اتخذت شكل المباغتة المدعمة بكل ألوان الإبهار والصخب.. واللغو أيضا، المفتقد لأي معني مفهوم .. إذ لا علاقة بين المعلن عنه والإعلان بما فيه من هذيان وعبث.
.. ثم بدا الأمر في مجمله بعد تفقد معظم القنوات، مواجهة إعلانية وكل القنوات مستنفرة، كل بأقصي ما يملك من أسلحة.. المشروع منها أو غير المشروع، المنطقي والمعقول.. أو اللامعقول!.
بالطبع هناك استثناءات قليلة وسط هذا الهوس تتعلق بالذات بدور بعض المستشفيات إزاء ما يحل بصحة المصريين وأطفالهم من بلاء.. وأخص بالذكر والإعجاب تنويها خاصا بدور الدكتور «مجدي يعقوب» ومؤسسته قدمه برقي ومشاعر صادقة عدد من الرموز المحترمة في وجوده، ولنعد إلي أصل الموضوع الإعلانات علنا نفهم الحكاية وما فيها قدر المستطاع.
فقد سبق أن كتبت لأكثر من مرة عن موضوع الإعلانات محذرا، والإعلانات أمر مشروع، ولكن تحكمه لدي غيرنا ضوابط صارمة.. كلنا لا نملك هذه الرقابة منذ سنين.. كتبت وكتب غيري.. لكني لم أكن أتصور أن يصل الحال إلي ما وصل إليه الآن من انفلات وعبث أقرب إلي الجنون، في أغلبه.
كان حديثي سابقا عن دور الوكالات الإعلانية في محاصرة التليفزيون الرسمي وكان له دور مشهود في الدراما والبرامج ـ لكن محاولة إقصائه وإقصاء دوره هذا عن الساحة بدا وقتها أن محطات وجهات إنتاجية كانت طرفا مع الوكالات الإعلانية في ذلك علي نحو مخطط ليتم بالتدريج.. غير أنه تكشف بعدها أن الوكالات الإعلانية، لم تكن مجرد طرف فقط.. بل هي من تمسك بزمام اللعبة كلها.. حتي أن الكلمة الأولي والأخيرة لها.. وفي كل ما يقدم علي الشاشات في رمضان وفي غير رمضان.. وأنها من يفرض شروطا صماء للسوق.. سوق التجارة والكسب.. الكسب المفلت من أي ضوابط مهنية أو أخلاقية تصيب العقل المصري بالتشوه والتخلف.
فإزاء كواليس لا نعرف ولا نري ما يجري خلفها.. وصلت الوكالات الإعلانية إلي الإمساك بقيادة كل الشاشات .. وربما وصل الأمر في تلك الوكالات إلي قبضة شخص واحد ـ قد نسمع عن حكاياته دون أن نراه- والآن..وفيما نراه من شطط وجنون من أجل أكبر نصيب في كعكة الإعلانات! الآن يبدو أن الأمر وراءه نفس اليد الشيطانية التي كانت تخطط لكل ما نراه.. هذا يتقدم أكثر.. هذا يتراجع قليلا.. وهذا يهمَّش أو يُنحي عن الساحة، كما حدث للتليفزيون الرسمي - الذي بدا الآن أكثر احتراما وسطهم رغم ما حل به ـ الآن هذه اليد المتحكمة نراها كأنما قررت أن ترفع يدها وتضع القنوات جميعا في مواجهة بعضها البعض في قتال ضار، فلم؟.. ما الهدف؟.. ربما تهدف هذه اليد المتحكمة في تركيع الجميع في مرحلة تالية لما لا نعرف من شروط؟!.. قد يكون لها علاقة بما يجري من تمزيق وتقسيم علي الساحة العربية بما في ذلك من إرهاب ودمار ودم.. لم لا؟.. لست أجزم بشيء.. ولكن ليس لديّ تفسير يقبله العقل سوي ذلك انتظارا لمجهول.. أليس العالم العربي بكل ما يعانيه الآن يقف أمام مجهول!! ـ وأول شيء لافت في جنون الإعلانات.. يقوم للغرابة علي اختيار فردي حر لمبدعين نحترمهم.. بهم وباختيارهم يتم مشاركة الجميع تقريبا في اللعبة المجنونة.. نجوم جميع المجالات.. الفن ..الكرة.. الإعلام.. شركات المحمول والأجهزة الاستهلاكية.. حتي وصل الأمر إلي الطهاة.. أو من جعل منهم الإعلام بإعلاناته إلي أن يصيروا نجوما ـ إذ يقدمون أطباقا لا تليق إلا بالصفوة وتنحدر بالضعاف إلي قاع القنوط ـ هؤلاء الطهاة أيضا يدخلون إلي هذه الحلبة ببهرجها وضجيجها.. وأسأل من لم يستدرج بعد؟.. فلا أجد إلا أسماء كبيرة تعد علي الأصابع.. ربما هناك من يخطط لاستدراجهم لاحقا في مخطط الحروب القادمة!. ثم لنلق نظرة سريعة علي ما تقدمه هذه الإعلانات.. ففي إطار البهرج والهوس وغياب المنطق، نجد أن أكثر من نصف هذه الإعلانات عن الشراء في الإسكان الفاخر أو (الكومباوند) باهظة الثمن.. يتبعها عروض مذهلة في رفاهيتها لشاليهات نائية.. منعزلة! ولشركات المحمول في هذا نصيب عظيم وعجائب في إعلاناتها مثل عجائب المطاعم والفنادق الفاخرة.. وجنبا إلي جنب نجد إعلانات الفقر والفقراء ومشاهد البؤس العظيم علي نحو يثير الغضب.. فبقدر البذخ في الإنفاق وتسخير المشاهير والإبهار التقني في معظم ما أشرنا إليه من إعلانات.. تأتي إعلانات الفقر والفقراء فجة في تصويرها بالغة التخلف التقني عموما توفيرا للنفقات وتعميقا لإهانة الفقراء ودعما للفقر لا حلا لظاهرته.. وهم في ذلك يذكروننا بحيرة الحكومة وقلقها في مواجهة الفقر.. وذلك باختصار لأنه لا رؤية حقيقية لمواجهته. فأي دور تقوم به إعلانات الفقر والعوز هذه؟.
هذا من التأثير الاجتماعي أما التأثير الأخلاقي لهذه الإعلانات فهو مهول! وبكل ما تحمله الكثير من الإعلانات من بذاءات وابتذال وترخص في التعبير بالصورة أو الألفاظ ضمن ما تصوره للناس من رسائل خاطئة.
أما علاقة ذلك كله بالمسلسلات الدرامية والبرامج، فله حديث آخر نبدأه بالمسلسلات في المقال التالي.
هامش: بعدما فقدت الأسرة المصرية الثقة في التعليم الحكومي منذ سنوات.. وبعدما فقدت الغالبية منها القدرة علي متطلبات وأوامر التعليم الخاص بعدما زاد توحشا.. أين تذهب الأسرة الآن بأبنائها؟.