الحاجة نرجس وشقيقتها عزيزة دخلا "مستعمرة  الجزام" منذ أربعين سنة إحداهما كفيفة والأخرى تساعدها على تحمل شظف الحياة .  هما من إحدى محافظات صعيد مصر تمكن المرض من جسدهما في وقت لم يكن الدواء ذا فاعلية حقيقة تم وضعهما في قسم الحروق  لحالتها الحرجة تقول الحاجة عزيزة "لم نتزوج بسبب المرض ولكننا تركنا كل ذكرياتنا خلف ظهورنا وتعايشنا مع أهلنا الجدد في المستعمرة فهم الباقيين لنا وما هي إلا أيام نقضيها حتى نري وجه رب كريم " .  إن مرض الجذام هو مرض يصيب الجلد والأعصاب الطرفية في الإنسان ويسبب ميكروب باسيل الجذام وطرق العدوي قد تكون عن طريق الأنف تعقبه فترة حضانة تتراوح بين3-5 سنوات ومن أعراضه بقع أو ارتشاحات جلدية فاقدة الإحساس أو تأثر الأعصاب الطرفية باليدين والقدمين والوجه مسببا فقد الوظيفة الحسية أو الحركية أو هما معا, وإذا تم التشخيص المبكر تجنب المريض كثيرا من الإعاقات والمضاعفات.    أما " صابحة" ابنة محافظة الفيوم فقالت "حضرت إلي هنا وأنا بنت سبع سنوات ليس لي ذكريات كثيرة بالخارج وتأقلمت في العيش هنا حتى بلغ عمري الآن 56 سنه يزورني بعض أقاربي في المواسم والأعياد وأود زيارتهم لي باستمرار لكن ما باليد حيلة فنظرة المجتمع لنا غير سارة وغير منصفة . في حين تقول بهية عيسي -  من دمنهور -  والتي أنهت العقد السادس من عمرها: "أسكن في عزبة الصفيح مع أبنائي وقد توفي زوجي الذي كان مريض جذام، وترى أن المستعمرة هي المكان الوحيد الذي يحتويني أنا وأولادي فالناس في الخارج ينظرون لنا نظرة خوف واشمئزاز".   وجاء عم عرندص أبو سريع للمستعمرة وهو في العاشرة من عمره -  سنة 1940 – قائلا:"  كنت أعمل مع والدي فلاحا وتم حجزي في المستعمرة للعلاج حتى أنني لم أر والدي ووالدتي عند وفاتهما, وأعمل بالمزرعة منذ دخولي المستعمرة، وكان أجري وقتها 4 مليمات في اليوم أما الآن فأجري12 جنيها أقوم بادخارها لزوجتي حينما أذهب لزيارتها مرة واحدة في الشهر في المنوفية ".    هكذا حفر مرضي مستعمرة الجذام ذكرياتهم الأليمة على جدران المستعمرة والتي تحتاج إلى ساعتين للوصول إليها، منذ نشأتها في عهد الملك فؤاد الأول-  بعد أن تم  تخصيص الموقع الحالي لوزارة الصحة العمومية بناء علي مرسوم ملكي تم نشره بجريدة الوقائع المصرية العدد 100 بتاريخ 1951- 11- 1 وذلك بناء علي المادة 11 من القانون رقم 31 لسنة 1946 بشأن مكافحة الجذام ويقضي بعزل المجذومين إجباريا - على مساحة من الأرض تصل2418 فدانا مترامية الأطراف مخصصة للمباني والمزرعة للنفقة علي المستعمرة وإيواء وعلاج وتأهيل مرضي الجذام، شكلت موقعها الحالي بمنطقة أبي زعبل بحي الخانكة .      طبيعة مرض الجذام وما يرتبط به من الخوف والعزلة والوصمة الناتجة عنه تثير الرعب, حتى أن أهل المريض يفرون منه كالفرار من الأسد، مستعمرة الجذام هي مأواهم الوحيد بعيدا عن عيون البشر التي تنظر إليهم بلا رحمة, هي عزلتهم الأبدية حتى الموت إذا جاز لنا التعبير.   إحدى الممرضات تقول إنها ولدت في المستعمرة لأب مواصفاته أنه مريض بالجذام ومولود بكلية واحدة وأم سليمة حيث تعرف أبي وأمي في المستعمرة وما زال أبي يعيش في المستعمرة ونعيش مع أمي التي تعمل في المحاجر لإعالتنا أنا وإخوتي الخمسة الذين يعيشون في قرية الشهيد عبد المنعم رياض الملحقة بالمستعمرة.    وصف كلمة مستعمرة توحي لك بأن المكان أشبه بكتيبة عسكرية لكنك تجد بوابة كبيرة مفتوحة على آخرها وترى مساحة كبيرة من المباني التي تتخللها مساحات خضراء وعدد من أعلام بعض الدول الأوربية إلى جانب علم مصر. أطباء وزارة الصحة يقولون " إن مريض الجزام أصبح علاجه سهلًا وخلال عامين يكون المريض قد شفي تماماً ويعيش على دواء شهري مثل مريض السكر والضغط ولا خوف من التعامل معه أثناء تعاطي العلاج، ومؤكدين أن معدلات الشفاء وصلت إلى أعلى من معدلات منظمة الصحة العالمية، وأن المستعمرة تخطت حاجز التعامل مع مرضي الجزام فقط بل تم دمج المستشفي مع المجتمع الخارجي بفتح عيادات خارجية وتخصصات للأمراض الأخرى لجذب المواطنين العاديين من القرى القريبة للانتفاع بتلك الخدمات وتقريب التعامل مع مرضي الجزام حيث يتردد على تلك العيادات يومياً أعداد كبيرة".   ويظل حلم العودة إلى الديار والاندماج في المجتمع مرة أخري يراودهم خاصة بعد أن تقلصت الإصابات بالمرض إلى أدني معدلاتها بنسبة 11. % لكل عشرة ألاف مواطن وارتفاع معدل الشفاء بين المصابين وتقلص أعدادهم في الفترة الأخيرة من تاريخ المرض في مصر.   الأمر الذي ساعد الكثير من المرضي المصابين بالتعايش مع المرض خارج كردون المستعمرة في قرية الشهيد عبد المنعم رياض التي استوطنها المرضي وأسرهم بعد تجاوبهم مع العلاج، وتكوين أسر جديدة مع أفراد من غير حاملي المرض، وأبو أن تكون جدران المستعمرة هي سجنهم فقرروا العيش في عشش من الصفيح بدلاً من العودة لديارهم القديمة والتي يشعرون فيها بالغربة، ليضربوا قصصاً واقعية في الاندماج الطبيعي مع المجتمع المحيط بالمستعمرة.  والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تمتد يد المساعدة لمستعمرة الجذام التي يعيش مرضاها حالة مأساوية بين أمل الشفاء وألم الفراق لذويهم؟ أم أنها ستكون مكانًا للعيش فيه بلا أمل ينظرون فيه الموت؟