إيجار الكرسي ٣٥ جنيها والشاي بـ ٦جنيهات والحمص بـ ٧ جنيهات

غابت الشمس عن نهر النيل واعتلت فوقه سحابة سوداء باهتة، فتاهت به الأيام وتحول من شريان الحياة للمصريين إلى لقمة هنية للبلطجية والباعة الجائلين الذين استولوا على ضفافه وحولوها إلى قطعة أرض تباع وتشترى بـ «الحتة والشبر».

انتشر الباعة الجائلين فوق الأرصفة ضاربين بكل القوانين عرض الحائط، صنعوا لأنفسهم دولة لها قوانينها الخاصة ، فاختفت كل مظاهر الجمال التي كان يتحلى بها الكورنيش وضاعت أحلام في الجلوس على النيل والبوح له بإسرارهم وشكواهم ورحلت ذكريات العشاق التي كانوا يسجلونها على شواطئه واكتفى المواطن البسيط بمشاهدته على شاشات التليفزيون لأنه تحول لا قطاعيات يمتلكها البلطجية والمسجلون الذين قاموا بتطبيق سياسة «الغاب» على كل من يفكر فى الذهاب الى هناك ..

قمنا بجولة على كورنيش النيل والكباري المطله عليه لتنقل معاناة المواطنين وتكشف تفاصيل كارثة جديدة تهدد الكورنيش وتبعث برسالة للحكومة والمحليات لإنقاذ ما تبقى من كرامته.

الجو الخانق والزحام دفعني للذهاب الى كورنيش النيل للاستمتاع بطبيعته الساحرة فى ظل ضغوط الحياة .. توجهت الى هناك مثقلا بالهموم، وضغوط الحياة على امل ان اغلف شكواى والقى بها الى احضانه الواسعة ولكن عندما وطئت قدماى أرض كورنيش الجامعة تحول الأمر الى كابوس مؤلم، تناسيت همومى وما جئت اليه وتطلعت بشغف الى ما آلت اليه الامور، الأرصفة أصبحت مأوى للبلطجية والباعة الجائلين.. التحرش عينى عينك سياسة «العافية» هى القانون الوحيد السائد هنا، احتل الباعة كل ضفافه وحولوه الى كهوف تحتضن كل أشكال المخالفات ، من هنا قررت خوض المغامرة والابحار فى هذا العالم الخفى لكشف كل الحقائق وعرضها على المسئولين من أجل إنقاذ ما تبقى من كرامة النيل.

«الفرشة فى «البكية»
فى اليوم التالى ذهبت الى نفس المكان مرتديا ثوب الباعة الجائلين، فلابد ان احصل على ثقتهم حتى اكتشف ما يجرى هنا ... الساعه 3 عصرا - بداية اليوم على الكورنيش- كل واحد فيهم قام بنصب «فرشته» فى «البكية» وهى المساحة الخاصة به، راقبت الموقف من بعيد، هناك على الطرف الآخر كان من يرص كراسيه البلاستيكية بمفرده، اقتربت منه، قمت بمساعدته، لم استغرق كثيرا فى اقناعه بالعمل معه،اخبرته باننى طالب جامعى وابحث عن عمل بعيدا عما يعانيه الباعة الجائلون فى الشارع ، لمعت عيناه، كنت بالنسبة له فرصة يغتنمها من اجل الحصول على بعض الجنيهات وتوفير ما سيحصل عليه احد صبيانه.

أصدر أوامره لبدء اليوم باشعال النار على الحمص من اجل تجهيزه.. جلس «المعلم» صاحب العربة بجوارى ليعرض على قائمة المشروبات واسعارها ، كوب الشاى بـ6 جنيهات فيما كانت اسعار المشروبات الباردة موحدة بـ8 جنيهات اما الحمص فكان بـ 5جنيهات الكوب الصغير اما الكبيرفهو بـ 7 جنيهات.. قمت بعدها برص الكراسى البلاستيكية فيما نمتلكه من مساحة وهى حوالى 20 مترا والذى اتضح بعد ذلك ان «المعلم» صاحب العربية يدفع «إتاوة» لهذا المكان 900 جنيه فى الشهر لبلطجى يدعى ( س.ع روبى ) وهو ما فاجأنى به عندما حاولت مجادلته فى سر غلاء الأسعار فقال لى فى عبارة واحدة «الناس نايمة فى العسل الكرسى الزيادة على الكورنيش بدفع فيه ارضية 35 جنيها عايزنى ابيع الحمص ب 2 جنيه مثلا» وعندما سألته عن دور الدولة المتمثل فى حملات الشرطة والبلدية قال بكل ثقة، بعد ان اتخذ موضع الرجل المهم «اشتغل معايا وأنت مطمن، الأمور كلها تمام وتحت السيطرة وكله بعلم الحكومة».

«القعدة بالرزالة»
رغم مرور 3 ساعات الا ان الاقبال كان ضعيفا حتى اقتربت الساعة من السابعه مساء، قام صاحب العربيه بتوصيل اسلاك الكهرباء باحترافية كبيرة بعمدان الانارة المتراصة على جانبى الكوبرى، ثم بعدها طلب منى تنظيف المكان ورش المية فى «البكية» الخاصة بنا.. بدأ الزبائن يأتون من كل حدب وصوب وكان الارض لفظتهم فى غفلة من الزمان، أمرنى المعلم بسحب الناس الى الكراسى مستخدما الالحاح «الرزالة» فى الطلب فهو الأسلوب المتبع هنا.. ومضايقة وايذاء اللى مش عايز يقعد حتى يغادر المكان وبعد عدد من المحاولات استطعت إقناع بعض الزبائن بالجلوس لتناول مشروب ساخن، بعد قليل طلب أحد الزبائن الحساب ، اقتربت منه بحذر فكنت اخشى رده ، وبالفعل دار بيننا هذا الحوار الذى لم اكن اعلم انه سينتهى بمشادة كلامية .

الزبون : حساب الحمص والشاى كام ؟

البائع محرر «الأخبار» : خلى يا بيه

الزبون : شكرا يا برنس
البائع : الحساب 2 حمص بـ 14 جنيها، وحاجه ساقعه بـ 8 جنيهات و2 شاى بـ 12 جنيها يعنى الحساب كله 46 جنيها بحساب الكراسى يا بيه.
الزبون : انت بتتكلم بجد ولا بتهزر
البائع : لا بتكلم جد وخلى عنك خالص
الزبون : فى سخرية وغضب ممكن اشتغل معاكم على الكورنيش
محرر «الأخبار» : انا عايز الحساب لو سمحت
الزبون : مش هدفع حساب عشان انا مش خواجه قاعد على الكورنيش انا البطاقة بتاعتى مكتوب فيها انى مصرى، وبعدين انا هدفع حق ما شربت 20 جنيها لو كان عجبك
هنا اقترب صاحب العربة وقال للزبون : هات الحساب يا بيه بدل ما اقل منك قدام الجماعه بتوعك.
تحولت المناقشة الى شجار لفظى بينهما وفى سرعة فائقة تجمع عدد من انصار صاحب العربة لانهاء الموقف والضغط على الزبون لدفع ما عليه من اموال
غادر الزبون وقد حان وقت مغادرتى انا الآخر
وقبل ان اذهب قلت للمعلم صاحب العربة : انا هروح بس عايز اقولك ان الزبون على حق.
نظر الى بغضب فحديثى بالقطع لم يعجبه .. ذهبت دون ان اودعه، واستكملت رحلة بحثى عن الواقع الاليم الذى اصبح يعانيه النيل.

١٠٠ جنيه لرؤية النيل
.. فوق كوبرى عباس اختفت الناس ،الكورنيش يخيم عليه الهدوء التقيت إحدى الأسر يقول سيد عبد الحميد 27 سنه: «أنا أول مرة أفكر أجيب أسرتى واقعد هنا من فترة كبيرة بس ماكنتش مصدق إن الحال وصل بينا للدرجة ديه، الأسعار ولعت يعنى عشان أستمتع بمنظر النيل وهواه أدفع 100 جنيه.. بس الغريب إن الحكومة سيبه الكورنيش بمعرفتها للبلطجية والباعة الجائلين اللى استولوا علية وأصبحوا يتحكمون فى كل شبر فيه»
على بعد خطوات كان يجلس أحمد عبد الرحمن 30 سنة وبجانبه حبيبته بدأ حديثه بنظرة يتخللها الحزن: «حضرتكم شايفين ايه»، الكورنيش تحول من وجه حضارى الى وكر للبلطجية والبياعين وبقى مكان للتحرش والبلطجة وبيع المخدرات وضاعت كل حاجه حلوة كانت موجوده فيه دا غير إنهم سارقين الكهرباء من عمدان الحكومة وقاعدين فى ملكية عامة الأسعار نار ومرحموش المواطن الغلبان .
الجو من حوله قد خيم عليه الظلام فى يده اليمنى سنارته الخاصة والأخرى يحمل بها كوب من الشاى تحدثت اليه، فلم يجد الحاج عادل أكثر من كلمة السمك زعلان ليبدأ بها حديثه عن ما يدور على كورنيش النيل قائلا : أنا بقالى أكثر من 50 سنة بقعد على النيل وأصطاد سمك وأتمتع بجمال الكورنيش وفرحة المصريين عليه بس ده كله اختفى خالص عشان البلطجية استولوا عليه وبيأجروه بالحتة والشبر، انا زعلان على حال الكورنيش ، الواحد كان بيجى يقعد هنا مش عايز يروح بس للأسف الكورنيش مابقاش بتاع الغلابة وبقول للحكومة نفسى أشوف النيل زى ما كان أيام عبد الناصر.

اصحاب الدار
انتقلت للحديث مع أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة هنا، وهم الباعة الجائلون التقيت عم شحاته أحد المتربعين على عرش كورنيش النيل والذى اعتبره ميراثا خاصا له ولأخوته السته فاستولوا عليه بوضع اليد وبسؤاله عن طبيعة عمله ؟ قال : انا من زمان بشتغل على الكورنيش واخواتى السته معايا كل واحد فينا عامل فرشه بياكل من وراها عيش والشغل كويس بس الرجل خفت عن المكان من مده، انا عشت على الكورنيش اصعب ايام حياتى لما كان فيه استقرار فى البلد وكنا برده بنشتغل بس كان الشغل صعب لأن الحكومه كانت كل يوم موجودة على الكورنيش بس الموضوع قل الحمد لله عشان الحكومه مشغولة عننا «والعيشة معدن ولقمة العيش على الكورنيش حلوة».. الصدفة جمعتنا بالشاب عمر ابراهيم يعمل صبى على احدى عربات الحمص اقتربت منه وتحدثت معه قال : انا مش من هنا انا من اسيوط باجى اقعد هنا مع المعلم اعمل سبوبة حلوة بكسب من وراها قرشين كويسين والحال زى الفل وتمام، احنا قاعدين هنا مينفعش حد يقعد جانبينا ويبيع حمص كل واحد ليه مساحة يفرش فيها الكراسى بتاعته والفرشة بتتقسم بالمتر وبنظام الاقدمية وحسب المكان فى «طرف» الكورنيش السعر وصل لـ 800 جنيه وفى قلب الكوبرى بـ 1200 جنيه وكله بسعره.. وبعدين ربنا يخليلنا (س.ع المصرى ) أجدع واحد وهو صاحب الكلمة على كورنيش قصر النيل والمنيل ومعاه رجالته، هو أه بيأخذ فلوس كتير «إتاوة» كل اول شهر بس بيحمينا من الشرطة والحى ومحدش بيقدر يهوب مننا.
فى نهاية الرحلة القيت بنظرة وداع الى النيل قاطعا على نفسى عهدا بان لا اجلس على الكورنيش حتى لا أتعرض لما يعانيه المواطنون وأيقنت فى هذه اللحظه ان كورنيش الغلابة تحول الى ماوى للباعة الجائلين والبلطجية والمسجلين.
مشروع لم يخرج للنور

تحدثنا الى اللواء ياسين عبد البارى رئيس حى غرب القاهرة حول قضية البائعة الجائلين قال ان هناك العديد من المخالفات التى تحدث على الكورنيش، نحن نبذل مجهودا كبيرا من أجل الحد من تلك المخالفات وهناك مشروع كامل لإنقاذ كورنيش النيل ولكنه حتى الآن لم يخرج الى النور، وأضاف: لقد طالبنا باجتماع على مستوى المحافظة من أجل وضع معايير وأسس للاستفادة من الكورنيش ووضع قوانين لكل فرد متواجد هناك وإبرام عقود مع هيئات او أفراد عن طريق كراسات الشروط او غيرها وهذا من شأنه ان يعود بالنفع المادى على الدولة ويحافظ على الشكل الحضارى لشواطئ النيل.. نحن نعمل حاليا على عودة الاستقرار وأنا شخصيا أذهب الى هؤلاء الباعة الجائلين وأتحدث اليهم من خلال الحملات المستمرة لانه فى النهاية يجب ان تسود هيبة الدولة.