خارج النص

حكاية الثورة التى استعادت الدولة| 30 يونيو .. وبناء القوة القادرة لمصر

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

كانت السنوات الـ 11 الماضية كفيلة بأن تقدم دليلاً حيًا على صحة القرار الذى اتخذه المصريون فى يونيو 2013، لم تكن الخيارات المتاحة تحتمل أنصاف الحلول، فإما وطنًا أو لا وطن

الأحداث الكبرى كالثورات الشعبية والتحولات الجوهرية فى مسار الأوطان، تبدو مثل العطر النادر، يزيدها الزمن قيمة، وتخلصها السنوات من شوائب النظرة القاصرة أو الانفعالات اللحظية، فيبقى الرحيق، ليدوم الأثر ويتركز الإحساس بقيمة ذلك العطر القادر على أن يفوح منعشًا الروح عبر السنوات، ومجددًا ذلك الشعور الأول بقيمة ما صنعناه.

وقد كانت ثورة 30 يونيو فى حياة المصريين كذلك العطر النادر، الذى كلما مرت عليه السنون زادته رونقًا وعبقًا، وحتى مع مرور العام الأول من العقد الثانى من عمر تلك الثورة الشعبية البيضاء، لا يزال معظم المصريين يحتفظون فى الذاكرة والوجدان بتفاصيل تلك الفترة الملهمة، يستعيدون بامتنان ما جرى فى ذلك الصيف اللاهب، عندما اندفع الملايين بصدور وأياد عارية إلا من علم بلادهم ورغبتهم الصادقة فى إنقاذ وطنهم من براثن جماعة فاشية قبل أن تكون إرهابية، استغلت لحظة ضعف وارتباك فى عمر الوطن لتحاول سرقة مستقبله.

لم تكن ثورة 30 يونيو 2013، مجرد انتفاضة فى وجه حكم فاشى وفاشل، بل كانت ثورة شعبية حقيقية من شعب يؤمن بأنه أكبر من أن يتحول إلى قطيع فى مشروع للهيمنة، تقوده جماعة سرية تستغل الدين وتتلاعب بمشاعر البسطاء وتتاجر بالأوطان  فى سوق «الربيع الزائف»، وصرخة صادقة بأن كل مصرى محب لوطنه لا يتردد فى التضحية بحياته من أجل صون ذلك الوطن وحمايته من أية أخطار، فكلنا عند تلبية نداء الوطن جنود يبتغون النصر أو الشهادة.

لم تكن ثورة 30 يونيو مجرد دعوة لعزل حاكم، حتى جماعته لم تكن ترى فيه سوى «احتياطي»، بل كانت انتفاضة أعلن فيها المصريون أن أعرق دول العالم لا يمكن أن تدخل «بيت الطاعة الإخواني»، وأن شعبها الأبيّ الذى بنى الحضارة، وحمى الأديان، وصنع التاريخ ليكتبه العالم عنه، أكبر من أن يغير حفنة من «تجار الدين والسياسة» هويته أو ينجحوا فى تقزيمه ليتناسب وحجم تلك الجماعة التى لم تكن سوى نبت عشوائى يجيد الطفو على سطح الأحداث، لكنه لم يستطع أن يمد جذوره فى عمق الشخصية المصرية أو يفهم حقيقتها، بل كانت تلك الجماعة - ولا تزال- تنظر إلى الأوطان بتعالٍ أجوف، وبفراغ فكرى يثير الشفقة، ويجعل من الغباء والقرارات الخاطئة رفيقا دائما لمسيرة تلك الجماعة وتوابعها على مر الأزمنة وباتساع الخارطة عربيًا ودوليًا.

كانت السنوات الـ 11 الماضية كفيلة بأن تقدم دليلاً حيًا على صحة القرار الذى اتخذه المصريون فى يونيو 2013، لم تكن الخيارات المتاحة تحتمل أنصاف الحلول، فإما وطنًا أو لا وطن.. إما حياة وإما موتًا بيد الإرهاب وطمس الهوية.. إما دولة تنحاز وتحمى شعبها وإما حربًا أهلية لا تبقى ولا تذر..

إما نضالاً من أجل البقاء وإما ضياعًا فى محيط صاخب تُستخدم فيه الدول والشعوب أداة لمشروعات تمكين أيديولوجية يصوغها طامعون ومتآمرون من وراء ستار.

بات المصريون قبل غيرهم يدركون اليوم بعد أن دارت عجلة الزمن، أنهم كانوا على حق، وأن لحظة الإنقاذ لوطنهم ومستقبلهم كانت تستحق التضحية والصبر، وأن 30 يونيو، لم يكن لحظة عابرة فى تاريخ هذه الأمة، بل كان صفحة جديدة قرر المصريون أن يكتبوا فيها كلمة واحدة مجردة من كل الحسابات والتوازنات والتباينات، كلمة تتجاوز الهويات والاختلافات والانتماءات ... مصر.

كما كانت تلك السنوات كافية لإقليم مضطرب ولعالم يشهد تحولات جذرية كى يدرك أن قرار المصريين أنقذ المنطقة والعالم من مغامرة محفوفة بالجنون، وأن انحياز المصريين للدولة الوطنية كان كفيلاً بأن يوقف تنفيذ مشروع بالغ الخبث والخطورة بتفكيك الدول وتحويل أدوات القوة والفعل ليد حفنة من الميلشيات التى تحركها أيادٍ خفية سواء عبر تمويل سخي، أو باستخدام أفكار أيديولوجية بالية.

صحيح أن المخطط - وللأسف الشديد- نال بالفعل من مقدرات شعوب شقيقة ودول عزيزة على قلوبنا فى المنطقة، ولا يزال ينهش أوطانًا أخرى مجاورة لنا، لكن وجود مصر بما لها من ثقل على مختلف المستويات الاستراتيجية والسياسية والثقافية، يمثل حصنًا منيعًا فى مواجهة تلك المخططات، بل ويمكن أن تكون التجربة المصرية الناجحة فى استعادة الاستقرار وبناء الأمل، هى «الترياق» الذى تنتظره العديد من دول المنطقة للتعافى من «سم» التفكيك و«عدوى» الاحتراب الداخلي.

إن تأملات جادة وواقعية لمسار السنوات الماضية، يجعلنا أكثر ثقة بأن الأساس الذى رسخته ثورة 30 يونيو، لا يزال قادرًا على أن يقودنا إلى مستقبل أكثر استقرارًا، وأعمق إنجازًا، فالأعمدة الأساسية التى أرستها ثورة ودولة 30 يونيو من احترام لثوابت هوية الشعب المصري، وحفاظ على مؤسساته المركزية المنحازة دائمًا لإرادة الشعب، وتمسك بهويته الوطنية الجامعة، والتزام ببوصلة وطنية لتوجيه القرار، ثم إطلاق «الجمهورية الجديدة» القائمة على العلم والعمل، وتمكين كوادر شبابية مؤهلة فى مختلف القطاعات، والاعتماد على خطط طموحة لبناء تنمية حقيقية، كلها خطوات صحيحة على طريق امتلاك «القوة القادرة» للدولة المصرية.

لكن إعادة القراءة واستشعار عظمة وإعجاز ما تحقق على مدى السنوات الماضية، لا يمكن أن يحول دون رؤيتنا الواضحة لوجود الكثير من التحديات، فالطريق لم يصل بعد إلى نهايته، بل لا تزال هناك عقبات تتطلب مضاعفة الجهد والعمل، وأبرزها التحدى الاقتصادي، والذى لم يعد تسريع الأداء فيه أو تحسينه مرهونًا بقدرتنا الذاتية وقراراتنا الجريئة وسياساتنا المحكمة، بل بات الأمر مرتبطًا أيضًا - شئنا أم أبينا- بتطورات إقليمية ودولية بالغة التعقيد، وعلينا أن نتخذ القرارات الصائبة دائمًا، وأن نتحلى بمرونة كبيرة فى وجه اختبارات قاسية لم نختر خوضها، بل تفرضها علينا اعتبارات التاريخ والجغرافيا.

لا يزال طريق «بناء الإنسان»، وهو الهدف الأسمى والأكبر لجمهوريتنا الجديدة، بحاجة إلى الكثير من الجهد والعمل، لإطلاق طاقات الإنسان المصرى العبقرية، وندرك جميعًا أن بناء البشر أكثر صعوبة وتعقيدًا وتكلفة من بناء الحجر، لكنه يبقى أيضًا الاستثمار الأهم والأبقى لأية أمة - كالأمة المصرية-  يمثل الإنسان أغلى ثرواتها وأهم ما تمتلكه من موارد.

ولا يزال طريق بناء وعى شعبى حقيقي، وتفاعل مستمر مع قطاعات الرأى العام المختلفة ضرورة ملحة ومستمرة، فبرغم ما تحقق من نجاحات كبيرة فى هذا المضمار، عبر امتلاك الدولة لأدوات مهمة لبناء الوعى والتصدى للشائعات، وتوضيح الكثير من الحقائق عما يجرى فى بلادنا وحولها، لكن الأمر لا يمكن أن يكتفى بما تحقق، بل لا بد أن نراكم عليه ونضيف إليه، فحملات الاستهداف مستمرة، وخصوم ثورة 30 يونيو ربما يئسوا من التواجد المباشر فى المشهد السياسى والجماهيري، لكنهم لم ييأسوا من العمل فى جحورهم الإلكترونية لإحباط الناس وإهالة التراب على كل إنجاز يتحقق، وتضخيم كل مشكلة نواجهها، وهذا أسلوب يجيدونه جيدًا بل واحترفوه على مدى عقود، لذا ينبغى الحذر وامتلاك أدوات المواجهة السريعة والفعالة فى مواجهتهم، فكتائب من يبثون الإحباط لا تقل خطرًا عن خلايا الإرهاب ممن يطلقون الرصاص!!

بنيتنا السياسية والحزبية أيضًا تتطلب عملاً دؤوبًا ومتواصلاً لإصلاحها وتفعيل دورها، ولعل ما حققته تجربة «الحوار الوطني» يمثل دليلاً عمليًا على إمكانية أن يقف الجميع على أرضية وطنية واحدة وتحت سقف المصلحة المجتمعية العليا، تحقيقًا للشعار الذى رفعه الرئيس عبد الفتاح السيسي: «الخلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية»، والذى هو فى جوهره تجسيد حقيقى لمبادئ 30 يونيو، التى كانت ولا تزال إطارًا وطنيًا صالحًا لالتئام الصفوف.

إن احتفالنا اليوم بالذكرى الـ11 لثورة 30 يونيو، ليس احتفاء بماضٍ رغم استحقاقه للاحتفاء، لكنه استبشار بمستقبل يستوجب الاعتناء، فثورة 30 يونيو كانت ولا تزال وستظل لحظة وطنية خالصة، ترسخت فيها عبقرية الشخصية المصرية التى استعادت ذاكرة الشموخ وعظمة ما حققته من مجد، استشعرت قيمة ذاتها فانتفضت ضد من حاولوا امتهانها، وفرضت على الجميع احترام إرادتها، عندما صنعت مسارها ومصيرها.

ستبقى لحظة 30 يونيو أساسا لبناء مستقبل مشرق لبلدنا، عماده الإنسان المصري، ووقوده الإرادة الصادقة والقيادة الواعية والمخلصة، وبوصلته المصلحة الوطنية العليا.

كل عام وأنتم بخير ... كل عام ومصر وطن يسكننا قبل أن نسكنه.