إعادة الحرية للخيال السجين

رمسيس يونان ..الثلاثة الكبار
رمسيس يونان ..الثلاثة الكبار

عينان غائرتان يخبئهما خلف نظارة سميكة، وجه منحوت، وجسد نحيل تتصور معه أنه لا يستطيع أن يحمل فرشاة الرسم، وديعا في سلوكه وتعامله. ملامح جسدية تتناقض تماما مع المعارك التي يثيرها دائما، مع التمرد والتجريب والثورة الدائمة، مع تصوراته للفن باعتباره «معمل بارود»، مع كتاباته التي لا تزال تثير الجدل، مع شعاراته المعلنة : «إنى متمسك بجنونى و أريد نشره»، ونداءه: «يا شبان العالم سفهوا آباءكم». هكذا دفع رمسيس يونان (1913-1966) أثمانا باهظة لمواقفه وأرائه، جرب السجن، والنفي، والفصل، والتجاهل، والتعتيم والتسفية والحروب المعلنة السرية ضده. كيف يمكن لهذا الثائر ان يحمل كل هذه الوداعة تجاه العالم؟

في ديسمبر 1942 كتب رمسيس يونان في «المجلة الجديدة» التي يرأس تحريرها مقالا بعنوان«تاريخ مأساة: العقاد وكيف تدهور». في المقال يصف يونان ما أنتجه شيوخ الأدب العربي الحديث بأنه «تاريخ مأساة»، كما أن مشروعاتهم الأدبية وصلت إلى «مأزق تعس لا نكاد نلمح فيه بصيص أمل».

هاجم يونان المازنى، ومحمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم، وطه حسين الذي أثنى على جهوده لحماية التعليم، ولكنه انتقد أفكاره حول  مستقبل الثقافة في مصر، وتوقف نشاطه الأدبي. وخص يونان العقاد بالجانب الأكبر من الهجوم العنيف «لم يوهب العقاد عقل عالم ، أو ذهن فيلسوف بل ولا قلب شاعر يعصمه عمق حسه عن الالتياث في الزائف من النظريات». كانت المقالة تتويجا لسلسلة من المقالات التى خصصها يونان ضد العقاد بسبب هجومه على السريالية مرة، ومرات بسبب مقالاته عن الفقر التي اعتبرها يونان نكوصا من النخبة المصرية عن المطالبة بالإصلاح الجاد.

ظلت هذه المقالات ماثلة في ذهن صاحب العبقريات لأكثر من عشرين عاما، لم ينس هجوم يونان عليه، لذا عندما وجد فرصته للانتقام عبر رئاسته لجنة التفرغ التي تقدم يونان للحصول علىها، رفض العقاد، بل هدد بالاستقالة إذا حصل عليها، مشككا في فن يونان وجدارته في الحصول على المنحة، قبل أن يتدخل ثروت عكاشة ويمنح يونان تفرعا خاصا. وفي عام 1966 ترفض اللجنة – ككل عام- تجديد تفرغ يونان ليظل شهورا بلا أى مورد حتى يتدخل الوزير – أيضا-  ثم يتم منحه المنحة كمترجم لا كفنان، ولكن يونان يرحل بأزمة قلبية بعد أيام قليلة.

لم يكن هجوم يونان على الكبار بحثا عن شهرة، أو نقطة ضوء،  لكنه كان نوعا من «الارتجاج» كما كان يسميه، حيث الرغبة الدائمة في كسر منظومات القداسة الفكرية المتكلسة التي تعوق المجتمع وتطوره. 

ما بين الميلاد والرحيل كان حياة رمسيس يونان تمثيلا حقيقيا لما ينبغى أن يكون عليه المثقف، لا تناقض بين الموقف والرأى، أو انغلاق بل تطور مستمر. 
عندما بدأ دراسته للفن تمرد يونان على التعلم الكلاسيكي فى مدرسة الفن مؤمنا بأن الخروج على النظرية وكسر القانون هو أول قواعد الفن، وكان كتابه الهام «غاية الرسام العصري »(1938) بمثابة ثورة فكرية. في الكتاب الصادر عن «جماعة الدعاية الفنية» يوضح يونان كيف أدى نجاح التصوير الفوتوغرافي في محاكاة الواقع إلى دعوة الرسامين للتمرد على الرسم الواقعي، ومن ثم البحث عن أساليب فنية أخرى قادرة على التعبير بعيداً عن تصوير الواقع بمشاهده التسجيلية التي يسهل عبر العلم الضوئي توثيقها فوتوغرافياً، فكان أن ظهرت التأثيرية والوحشية والتكعيبية والتجريدية والتعبيرية والرمزية والسوريالية وغير ذلك من المدارس التشكيلية التي لم تركن إلى الواقع .
ويذهب رمسيس يونان نحو إيجاد تعريف مناسب لما يسميه بوظيفة الفنان، والتي يرى أنها تكمن في مقدرته على الاشتغال بالخطوط والألوان لإحداث توفيق بينها، بحيث ترمز حينذاك إلى رغبات ومعان نفسية متنوعة.


بعد أقل من عام على صدور الكتاب أصدر يونان مع جورج حنين وكامل التلمساني وأنور وفؤاد كامل ومجموعة من المثقفين في مصر بيانهم الشهير «يحيا الفن المنحط» كان البيان صرخة ضد أعداء الحرية ومنظِّري الفاشية. وكان بداية لتأسيس جماعة «الفن والحرية» الجماعة التي تسعى إلى فن بلا سقوف، وتركت، رغم أنها كانت لحظة خاطفة، تأثيرا كبيرا في الفن والثقافة والأدب في مصر. 

كانت السريالية كحركة عالمية تسعى إلى تحرير الفكر، والنضال ضد الأفكار والقيم الموروثة، وإعادة الحرية إلى الخيال السجين، وكان سلاحها لذلك اللجوء إلى الأحلام واللاوعى.. وشعارها تغيير الحياة. ورغم أنها كانت بمثابة حركة احتجاج ضد وحشية الحرب العالمية، إلا أن السريالية المصرية لم تكن نتاج حرب، حتى وإن بدت كذلك، إذ كانت حسب لويس عوض ردا فنيا على معاهدة 1936 التي أدت إلى انفصال السلطة عن الشعب الذي رأى بعد المعاهدة الجمود في كل شيء، وأن نضاله وكفاحه من أجل التحرر قد تم إحباطهما، فكان لا بد من التحديث، وثورة في الفكر والفن والحياة تعبر عن الروح المصرية.

وكانت السريالية المصرية ابنه للواقع المصري، حسب تعبير أنور كامل- أحد الآباء المؤسسين للحركة- في حوار صحفي مع: «السريالية كانت رفضا لبشاعة الحرب، ولكن البشاعة موجودة في العالم كله بصور مختلفة، البشاعة متعددة الأوجه، إنها ليست فقط بشاعة الحرب، ولكن بشاعة الفقر والمرض والجهل، لم تكن السريالية المصرية حركة منقولة، إذ أن السرياليين المصريين كانوا سرياليين قبل أن يدرسوا السريالية كمدرسة».

وكانت حسب يونان نفسه دعوة إلى  «عالم جديد، نحتاج معه إلى ولادة جديدة إلى الرجوع إلى الجذور والبذور، إلى الدوافع والحوافز الكامنة، إلى القوى الأصيلة، إلى اللهب المقدس الذي اغتصبه «برومثيوس» من الآلهة وأدوعه في كل قلب». 

شارك يونان فى تحرير إصدارات الجماعة، فقد كان لسانها العربي، وصائغ بياناتها، ومحرر مجلاتها. حرر مع حنين وأنور كامل مجلة «التطور» التى اغلقت، فانتقل إلى المجلة الجديدة التى كان قد اسسها سلامة موسي بهدف «التجديد في الثقافة، والتقرب من الغرب، والإيمان بحضارة أوروبا، ومنع العوائق التي تعوق انتشارها في بلادنا».

وجد السرياليون في المجلة الجديدة منبرا للتعبير عن أفكارهم، ودعما من سلامة موسي نفسه لهذه الأفكار.  استمر يونان رئيسا لتحرير المجلة لأكثر من عامين حتى تم اغلاقها عام 1944 بعد التضيق عليها رقابيا، وبعد عامين  سجن يونان في زمن إسماعيل صدقي فيما عرف بقضية الشيوعية الكبري، وعندما غادر السجن سافر إلى باريس ليعمل في القسم العربي في الإذاعة الفرنسية، وأثناء عمله هناك تصدى لدعوة   أندريه بريتون إلى إقامة معرض لدعم إسرائيل، لكن يونان ورفاقه رفضوا المشاركة في المعرض، بل كتب يونان لرموز السريالية العالمية في كل مكان يحرضهم على عدم المشاركة ومؤكدا لهم أن إسرائيل هى التي تغتصب شعبا عربيا وتحتل أرضه، واستجاب له بالفعل سلفادور دالى وآخرون. 

كما رفض يونان عام 1956  أثناء عمله في الإذاعة الفرنسية إذاعة بيانات العدوان، واستقال من منصبه ليعود إلى مصر  ويبدأ مرحلة جديدة، راجع فيها سرياليته مؤكدا أنها «ضيقت الخناق على الخيال» منتقلا إلى التجريد..ولكنه ظل مؤمنا في كل مراحله الفنية بأن «الفن عملية متواصلة للبحث عن الحقيقة»، وأن « صوت الفن في المجتمع الحاضر- الفن الصادق الرسالة – لا يمكن أن يكون إلا قوة إيجابية دافعة، قوة تخترق الجدران وتفتح النوافذ، تشعل المواقد في كل مكان وترتاد أخطر المجاهل، تمزق الأقنعة وتغير على الحدود...كل الحدود».


بعد رحيل يونان، نشرت الهيئة المصرية للتأليف والنشر «دراسات في الفن» عام 1969 عددا من المقالات التي كتبها يونان في مناسبات عديدة، وكتب الناقد لويس عوض مقدمة الكتاب الذي جاء محدودا، لم يضم معظم المقالات والترجمات الهامة التي تركها يونان وظلت موزعة في العديد من المجلات والجرائد من بينها التطور، والمجلة الجديدة، ومجلة المجلة، والهلال، والفكر المعاصر، ولوتس «مجلة الأدب الإفريقي الأسيوي»، وجرائد الأهرام والشعب. وهى تحتاج إلى جهد باحثين لجمعها وإصدارها، لأن تراث رمسيس يونان جدير بالبقاء والاشتباك معه. في هذا الملف ننشر بعضا من المقالات التي لم تنشر في «دراسات في الفن».