قلب وقلم

صاحب الأطياف الشعرية

عبد الهادى عباس
عبد الهادى عباس

شكّل الوعى بمأساة المواطن العربى الأطياف الشعرية لحجازى

خلال الأيام الماضية احتفل الشاعر المصرى الكبير أحمد عبد المعطى حجازى بذكرى ميلاده التاسع والثمانين؛ عمر طويل أوقفه «حجازي» عن طيب خاطر لخدمة قضايا الثقافة العربية والدفع بأفكار الحرية والتنوير لتجرى أمواجًا فى نهر الفكر المصرى والعربي.

أعرف ويعرفنى زملائى أننى متحيز إلى إبداع هذا الشاعر الكبير، ربما لأنه منوفى «بلدياتي»، وربما لأنه أحد الشعراء الذين تعمقت فى دراسة إبداعهم فى الماجستير، وربما لاقترابى من عقله فى الحوارات العديدة التى أجريتها معه لـ «الأخبار»، وربما لكل هذه الربمات مجتمعة؛ إذ الحقيقة أن كتابات «حجازي» الشعرية والنثرية مؤسّسة لرؤيته العميقة عن الحرية الإبداعية وضرورة التكاتف العربي.  

لقد شكّل الوعى بمأساة المواطن العربى الأطياف الشعرية لحجازى، كونه أحد أعمدة الشعر الجديد؛ وقد حمل ديوانه الأول «مدينة بلا قلب» الذى صدر فى خمسينيات القرن الماضى بواكير هذا التوجه العام لجيل كامل من الشعراء انبثق على واقع مرير؛ وكان ديوانه الثانى الذى صدر عام 1959م علامة واضحة على طريق الشاعر واهتماماته؛ فقد أبان منذ عنوانه عن تلك الرؤى العروبية التى تلف كينونة «حجازي» فى طياتها، فجاء اسم الديوان «أوراس»، وهو اسم الجبال التى كان ينطلق منها المجاهدون الجزائريون إبان حرب التحرير؛ ثم تتابعت دواوينه استجابة لصورة الواقع المتردى فى وجدانه، فجاء ديوانه الرابع (مرثية للعمر الجميل) هزة عنيفة لكل ثوابت الشاعر بعدما اهتزت ثوابت الأمة كلها إثر نكسة 1967م.. ورغم هذه الحيرة الوجودية التى ضربت بأطنابها جيلا كاملا من المثقفين فإننى لم أوافق د. لويس عوض فى رأيه، حين قال إن حيرة «حجازي» أدت إلى اكتئاب وانسحاب إلى الذات..

لا أوافقه لأن الاكتئاب والانسحاب استسلام، وضمور، وعجز عن المواجهة، وإلقاء للسلاح فى حومة الوغى، ولا تزال المعركة حامية الوطيس ملتهبة السعير؛ وهذا لم يحدث فى الواقع، فقد ظل الشاعر ممتشقا سلاحه، مرتديا ملابس الحرب، متأهبا للنزال، رافعا صوته ورايته بـ «لا» الزاعقة ضد كل توجه يخالف قناعاته الراسخة فى تأسيس وطن عربى واحد ينافح الواغش وينفض عن نفسه سكون النوم والموت لينتصب فى مواجهة أعدائه، نائحا باللائمة على الممارسات الخاطئة لثورة يوليو التى تبنى نهجها واعتنق عقيدتها منذ اللحظة الأولى لانبعاثها، باحثا عن عالم عربى قادر وفاعل، بل وعن كوكب أكثر إنسانية وجمالا، عن طريق رفض القبح ومنافحته.

ومنذ ديوانه الأول اتخذ مكانه منافحًا عن حرية الكلمة، وعن الأمل المرجو من وجه الزمان؛ وفى ظل انفعاله المصاحب لثورة يوليو وقف يدافع عنها ويبث فيها الحمية ويرجو منها الأمل، ويفتح ذراعيه على اتساعهما ليحضن النجوم الزواهر، ويعب ملء رئتيه من عبير الأحلام؛ غير أنه كان أيضا يقظا ومنتبها وناقدا ومحذرا، بعدما تشمّم بحدس الشاعر، الجور على الأمل ومحاصرة الأحلام، والتضييق على الكلمة المنطلقة وأسرها فى الأوهاق، ليلتحف بها الأفاكون والمستغلون الذين حادوا عن النهج ومالأوا فى الخطأ ونافقوا فى الصواب، فانحشرت الثورة فى حلقه!

هذا الهمّ العربى الواحد الذى انشغل به الشاعر طوال رحلته الشعرية وبثه فى كل دواوينه يدعو للإعجاب والزهو؛ إذ عبّر عنه من خلال منهجه الشعرى الجديد الذى لم ينسلخ فيه من ماضيه، وإنما ينبثق نبعه منه؛ فهو يؤكد دائمًا أنه مشغولٌ بفكرة الاستمرار والتواصل، وبينما يزعم بعض الشعراء أنهم جاءوا من الروح القدس يُحاول هو التعرف على أسلافه بحثًا عن مكانه فى شجرة العائلة. و»حجازي» يؤكد هذا المعنى كثيرا فى كتاباته النثرية؛ إذ يبرز مفهوم التجديد عنده مرادفًا للثورة على التقاليد وتقويمها وليس هدمها وإزالتها.

دمت منافحًا عن الحرية والقومية العربية فى عمرك المديد أيها الشاعر المجيد.