آخر مغامرة أعادته للسجن عام 1970

تخصص في سرقة محلات الذهب.. اعترافات أشهر نصاب انتحل صفة ضابط

الكابتن المزيف بدون ملابس النصب
الكابتن المزيف بدون ملابس النصب

■ قراءة: أحمد الجمَّال

قبل 45 سنة، عرفت مصر واحدًا وُصف بأنه أشهر نصّاب انتحل صفة ضابط، ومارس عمليات احتيال عديدة، ووقع فى شراكه الكثير من أصحاب محلات الصاغة.

القصة تبدو أغرب من الخيال لكن تفاصيلها حدثت بالفعل ونشرها الكاتب الصحفى الراحل رأفت بطرس فى «آخرساعة» عام 1970، مبرزًا جهود وزارة الداخلية فى الإيقاع بالرجل الذى حير رجال الأمن لسنوات.. الحكاية نعيد نشرها بتصرف محدود فى السطور التالية: 

◄ استعان بلص هجام وعسكرى مزيف وسيارة بائع لبن وزوّر «كارنيه» برتبة نقيب

تمثيلية محكمة بطلها مغامر احترف النصب والسرقة، يدعى محمد مصطفى عبيدو تنكّر فى ملابس رسمية لرجال الأمن، وأحال عربة لبن إلى سيارة شرطة، واصطحب معه فى مغامراته شرطيًا مزيفًا واشترى له ملابسه من وكالة البلح أيضًا.

■ قصص نصب قديمة يرويها الضابط المزيف للرائد عباس العاصى والنقيب صفا أسعد

دخل السجن.. وخرج ليغامر من جديد، لكنه هذه المرة ما كاد يبدأ عملياته الخطرة فى السرقة حتى وقع فى قبضة رجال الأمن.

لم يكن الزبون أو الضحية الجديدة الذى التقى به فى جولته الأخيرة سوى ضابط شرطة حقيقي، تفاوض معه وابتسم له، وفى لحظة كان يضع «الكلبشات» فى يد الكابتن المزيف، الذى راح يروى قصته من بدايتها..

الآن أقف بين أيدى رجال المباحث للمرة العاشرة، لقد زرت جميع السجون وأصبحت من نزلائها المعروفين، وبتُ أكره هذه اللعبة، لقد كلفتنى سنوات عمرى وأصبحت السنوات الباقية لا طعم لها ولا قيمة، هويت انتحال صفة رجال الأمن، ومع مرور الأيام انقلبت الهواية إلى احتراف، فقد اندمجت فى الدور حتى خُيل إليّ أننى فعلًا ضابط شرطة، ومن أجل هذه الهواية دخلت السجن وخرجت عدة مرات، وفى كل مرة أخرج لأبحث عن أهلى وأصدقائى أجدهم جميعًا قد أنكرونى وأصبحوا يتهربون مني.

◄ بداية القصة
والتفتُ خلفى أبحث عن البداية، وبعد جهد استطعت أن أتذكر أنى من مواليد عام 1930، فى ذلك العام وُلِدتُ فى حى إمبابة، ووجدت نفسى وسط خمسة من الإخوة والأخوات، وبدأت حياتى مثل الملايين الذين فى مثل سنى أذهب إلى المدرسة وأجتاز امتحاناتى بنجاح حتى حصلت على شهادة التوجيهية عام 1950.

وحملت الشهادة وأخذت أجوب الشركات بحثًا عن عمل حتى التحقت بوظيفة كاتب حسابات بالإصلاح الزراعي، وفى هذه الأثناء بدأت أشعر بأنى رجل كسيب، وبأنى لابُد أن أمارس بعض العادات التى يمارسها الرجال، وصوّر لى تفكيرى أن هذه العادات هى الخمر والمخدرات والنساء.

◄ اقرأ أيضًا | حبس المتهمين بسرقة 6 ملايين جنيه من مندوب محل ذهب بالخليفة 

◄ فصل واختلاس
وبدأت حياتى وسط هذه العادات، وبدأت الجنيهات القليلة التى كانت تدخل جيوبى أول الشهر تذوب وتتلاشى، واضطررت إلى أن أمد يدى لبعض المبالغ التى كانت فى عهدتى لأواجه نفقاتى المتزايدة، فكان مصيرى الفصل من الشغل والتسكع فى الشوارع.

وبدأت أطرق الأبواب مجددًا، ولحسن حظى لم يطل بى الانتظار كثيرًا، فقد التحقت بالعمل فى شركة «إسكو»، ومرة أخرى وجدت نفسى أختلس 1200 جنيه من أموال الشركة، لأجد نفسى فى الشارع مطرودًا من العمل.

◄ الفكرة الخطيرة
وفى عام 1961 تذكرتُ فجأة وسط هذه الظروف أننى لم أتزوج رغم أنى كنت قد تجاوزت الثلاثين، فتزوجت من فتاة ارتضت أن تكون زوجة لي، وزادت مشاكلي، فقد أنجبت زوجتى طفلًا، وكان عليّ أن أعول هذه الأسرة وأسد الأفواه الجائعة ولكنى لا أملك مليمًا واحدًا، ولا عملًا أرتزق منه.. حاولت أن أطرق الأبواب مرة أخرى ولكنها كانت جميعها موصدة، وكان عليّ أن أتصرف قبل أن يقتلنا الجوع، فوقفت أمام المرآة أنظر لشكلي، وما هى الأدوار التى يؤهلنى شكلى للقيام بها دون أن يشك فى أحد، وخطرت لى فكرة: لماذا لا أنتحل صفة ضابطّ؟

وتبلورت الفكرة فى ذهني، وقررت أن أنفذها، لكنى خشيت أن أرتدى ملابس ضابط فينكشف الزي، لذا قررت أن أنتحل صفة ضابط مباحث، وبسرعة وجدت نفسى أزوّر «كارنيه» يقول بأنى نقيب فى المباحث الجنائية، ووضعت الكارنيه فى جيبى وقررت أن أبدأ العمل. 

كان تخطيطى لبداية عملى مثيرًا، فقد استعنت بلص هجّام ممنْ يحترفون كسر المحلات التجارية، واستعنت أيضًا بسيارة أحد تجّار اللبن نظير إيجار يومى قدره عشرة جنيهات، وكانت الخطة أن يذهب اللص الهجام لأحد تجار الذهب ليبيع له كمية من الذهب، وفى اليوم التالى أستقل أنا سيارة اللبن بعد أن أنزع لوحاتها المعدنية وأستبدلها بلوحات شرطة زيفتها بإحدى الورش، وأمام المحل الذى باع فيه الهجّام الذهب أنزل من السيارة بثبات وأدخل المحل وخلفى عسكرى مزيف مرتديًا بدلة شرطة اشتريتها له من وكالة البلح بـ150 قرشًا، ويمسك بيديه اللص الهجام وهو يرتعد خوفًا، ويفاجأ صاحب المحل بهذا المنظر وأتقدم نحوه وأعرّفه بنفسى كضابط مباحث.

◄ لص عسكري
ويرحب بى التاجر ويرتبك من الموقف، وقبل أن يفتح فمه بكلمة أشير إلى اللص وأخبره بأننا استطعنا القبض عليه فيعترف بأنه باع له كمية من الذهب المسروق، وأطلب منه بدلًا من الفضيحة وإغلاق المحل أن يعطينا ما اشتراه من الذهب ويحضر بعد الظهر إلى مكتبى لإتمام المحضر، وطبعًا ينصاع الصائغ لأوامرى ويحضر الذهب، ولكنى أخبره بأن الكمية التى باعها له اللص أكثر من هذا، ويحلف الصائغ مئة يمين بأن ما اشتراه هو هذه الكمية التى قدمها فعلًا، فأهدده بإغلاق المحل، وهنا ينطق اللص فى رعشة بأنه باع له أكثر من هذا.

ويضطر الصائغ المسكين أن يعطينا ذهبًا من عنده على أمل أنه سيأخذه بعد التحقيق، وقبل أن أغادر المحل أعطيه إيصالًا بما استلمت، وأطلب منه الحضور لمكتبى بعد الظهر لاستيفاء التحقيق، وطبعًا يذهب الصائغ ليفاجأ بأن ما حدث كان مجرد تمثيلية وأنه وقع ضحية عصابة نصب خطيرة.

◄ تعدد الحوادث
وتعددت حوادثى حتى أزعجت الأمن العام، ولم أقع بقبضة رجال الشرطة إلا فى عام 1962 أثناء بيعى كمية من الذهب المسروق، وطبعًا وجدت عشرات القضايا تنتظرني، ودخلت السجن لأقضى فيه سنتين كانتا بالنسبة لى مدرسة تعلمت فيها من أمهر وأشهر المجرمين.

وفى عام 1965 خرجت من السجن وذهبت لأقاربى وأصدقائى لكنهم جميعًا أداروا وجوههم بعيدًا عنى وأنكروا معرفتهم بي، حتى زوجتى اكتشفت أنها استصدرت حكمًا بالطلاق منى وتزوجت بآخر، ولما سألت عن ابنى علمت أنه شرب بطريق الخطأ «بوتاس» فمات، وحمدت الله فقد أراح واستراح.

وبعدها بدأت حوادثى تتكرر، ولكن بدون سيارة، فقد كنت أستوقف المارة وأفتشهم بحجة الاشتباه فيهم، ثم أستولى على ما معهم من نقود بخفة يدي، لكن أيامى لم تطل، فقد كان رجال المباحث يعرفوننى جيدًا، وكان مصيرى صدور قرار باعتقالى لخطورتي.

سنوات أربع قضيتها داخل المعتقل حتى أُفرِج عنى وخرجت أسعى وراء ضحاياى الذين استراحوا منى طوال هذه المدة، وتقابلت مع عصابة رأيت أن أعمل تحت إشرافهم عسى أن أكون بعيدًا عن الأنظار، ونزلت إلى الشغل واستطعنا أن نحصل فى هذا اليوم على أربعين جنيهًا، وكان نصيبى جنيهًا واحدًا، وفى اليوم التالى هكذا.. والثالث مثل سابقه، لكنى فاتحتهم بأن أتعابى هذه لا تكفى المخدرات التى كنت قد أدمنتها بصورة بشعة، فأشاروا عليّ بأن أطوّر عملي.

قالوا لى أنت معتاد على انتحال صفة ضابط مباحث، طوّر عملك فى هذه المرة وانتحل صفة ضابط شرطة عادى وارتد الملابس الرسمية، واكتشفت أن كلامهم مفيد واقتراحهم ظريف فوافقت، واصطحبونى إلى ترزى فى شارع «كلوت بك»، قام بتفصيل بدلة رسمية لى ووضعت عليها نسرًا، فقد قررت أن أكون برتبة رائد.

◄ التمثيلية الأخيرة
وفى صباح اليوم التالى بدأت التمثيلية.. دخلتُ إلى محل «لؤلؤة الجزيرة» بشارع جزيرة بدران بشبرا وورائى أحدهم فى دور مخبر والآخر فى دور لص، وعندما استقبلنى صاحب المحل أفهمته بأنى نائب مأمور قسم مصر القديمة، أى اسم وأى منصب المهم دخلت عليه اللعبة، فاسترسلت فى الحديث عن أشهر الحوادث التى قمت بتحقيقها وضبطها والصائغ ينصت لكلامى بإعجاب شديد، وفى الأثناء دخل شاب وسيم اعتقدت أنه زبون جاء لشراء شبكة لعروسه، ومثّل عليّ أنه معجب بكلامى وبشخصيتي، وفى هذه المرة دخلت عليّ أنا اللعبة، واعتقدت أنه زبون فعلًا فأخذت أشركه معنا فى الحديث عن مغامراتى البوليسية.. كل هذا والمخبر واللص المزيفان واقفان على باب المحل، وعندما هممت بالانصراف حاملًا الذهب الذى استطعت الحصول عليه هجم عليّ الشاب الوسيم الذى كان معجبا وأمسك بى وهنا تكهرب الجو وحاول المخبر واللص المزيفان الفرار، لكننا فوجئنا جميعًا أننا محاصرون من رجال الشرطة.. كل هذا حدث والصائغ مندهش لما يحدث.

وفى الطريق علمت أن الشاب الوسيم ما هو إلا النقيب «صفا أسعد» ضابط المباحث، وفى وحدة مكافحة جرائم المال وجدت الرائد عباس العاصى مفتش المباحث ينتظرنى وأمامه ملف نشاطى بالكامل، وبعدها خلعت ملابسى الرسمية وأرسلت إلى النيابة لأسمع من جديد الحكم عليّ بدخول السجن لأقضى فيه فترة طالت أم قصرت.. ولكن هل سأعود بعد ذلك إلى هوايتى القديمة وعملى الذى اكتسبت فيه خبرة طويلة؟ لا أدرى!!

(«آخرساعة» 15 يوليو 1970)