حبر على ورق

قصة بتاريخ قديم

نوال مصطفى
نوال مصطفى

كنت فى تلك الأثناء استعد لندوة مهمة عنوانها «الأدب فى دروب التاريخ» فى بيت الشاعر. أستقبل شركائى الأعزاء فى المناقشة الكاتب الدكتور أسامة عبد الرءوف الشاذلى، والكاتبة شيرين هنائى، أصافح المضيف الأديب والإعلامى المرموق جمال الشاعر، الذى أفسح لنا ذلك المكان الأثير، الحميم، المشع بالنور والطاقة الربانية فى شارع المعز لدين الله الفاطمى لنقيم به ندوتنا.

كنت مشغولة كذلك بالترحيب بالناقد القدير دكتور شريف الجيار الذى حمل رواياتنا الثلاث: «عهد دميانة».. «سيرة القبطية».. «وكأنه الحب» داخل عقله، ومشاعره، وجاء ليشاركنا هذا اللقاء الخاص جدا، بقراءة مختلفة، تنفذ إلى أعماق النص، تلتقط جواهره، كما تمسك بهناته دون مجاملة. كنت أرحب أيضا بالحضور الكريم الذى حضر ليستمع ويشارك فى ندوة أدبية فكرية من العيار الثقيل، تضم ثلاث روايات، لثلاثة كتاب. القاسم المشترك الذى يجمعهم هو التاريخ، كل منها تتكئ على مرحلة تاريخية مختلفة وموضوع مختلف.

وسط الزحام، وقبل بداية الندوة، وجدت شخصا يقترب منى، ويسألنى: انت فاكرانى يا أستاذة نوال؟ دققت النظر إلى وجهه، لكنى لم أتذكر تحديدا متى رأيته من قبل؟ ولا فى أية مناسبة، أو أى سياق؟ لم يتركنى لحيرتى طويلا، بل أجاب هو عن تساؤلاتى دون أن أنطقها.

قال: لقد كنت سببا فى تغيير حياتى أستاذة. كتبت لك مأساتى، وقمت أنت بكتابتها فى صفحتك «رسائل خاصة جدا» التى كنت تحررينها كل يوم سبت فى أخبار اليوم. اهتممت بى وبمشكلتى الكبيرة التى كانت ستؤدى بى إلى الانتحار، وكتبت فى الجريدة رأيك فى الحل، وعندما طلبت منك أن التقى بك وجها لوجه، لم تبخلى على بهذه الأمنية، وحددتى لى موعدا لأحضر إلى مكتبك فى الجريدة. وهذا ما حدث. ومنذ ذلك اليوم انقلبت حياتى البائسة إلى حياة مشحونة بالأمل، تحسنت علاقتى المرتبكة مع أسرتى، أكملت تعليمى الذى كاد أن يتوقف بسبب حالتى النفسية السيئة، والتحقت بكلية التجارة، وتخرجت منها بتقدير مشرف، ثم سافرت واشتغلت، والآن أنا إنسان مختلف.

استأذنت صاحب القصة فى نشرها، فرحب بذلك، بل أكد لى أنه لا يمانع فى نشر اسمه، لكنى فضلت ألا أفعل حفاظا على الخصوصية، وسوف اكتفى بنشر الحرفين الأولين فقط «أ.ج». المفاجأة الأكبر أن هذه القصة التى أطلت على حياتى من نافذة الماضى البعيد عمرها الآن ثمانية عشر عاما، فقد نشرت قصته عام 2006. لكن الأثر الباقى فى وجدانه وذاكرته جعله يتابع كل كتاباتى طوال هذه الفترة، وأن يقتنى كل كتبى وقد أرانى على موبايله صورة محتفظا بها بكل أغلفة كتبى، وكذلك القصة القديمة على صفحة الجرنال، والردود التى تابعتها معه حتى تم حل مشكلته مع أهله، وكذلك مقالات كثيرة لى محتفظ بها فيما يشبه الأرشيف لأعمالى!

دمعت عينى وأنا أتابع كل ما جمعه «أ.ج» عن خطواتى فى مشوارى الأدبى، الصحفى، وكذلك الإنسانى من خلال متابعة كل جهودى من أجل قضية أطفال السجينات وأمهاتهم «سجينات الفقر» وتوثيق كل هذا والاحتفاظ به، مرتبا بدقة ونظام.

هزتنى المفاجأة وأبكتنى. فما ينفع الناس يمكث فى الأرض، ويجيء «أ.ج» ليخبرنى بذلك ويؤكد هذه الحقيقة بالدليل الواقعى. أبهرنى - فعلًا - ما حدث وجعلنى أشعر بمسئولية أكبر عن كل كلمة يخطها قلمى، فمن خلال هذا القلم يمكن أن نغير كثيرًا فى حياة البشر، وهى مسئولية وأمانة لو تعلمون كبيرة. لقد أعطى الله - عز وجل - كل صاحب قلم هذا السلاح العظيم «الكلمة» لنكتب ما يمكث فى الأرض، ونحارب كل ما يعيث فيها فسادا وقبحا وافتراء. اللهم أعنا على أن نكون كتابا مخلصين لتلك الأمانة، حافظين لرسالة «الكلمة».