مرة واحدة

  منال السيد
منال السيد

خمسون عامًا رقم لطيف. عبرته مثل فلوكة خشبية فوق موج المغرب. موج نيلى هادئ وعميق حيث لا شىء فى القاع وكل شىء فى القاع. الظلام والجنيات وبقايا أحذية الغرقى.

جميع الغرقى من المغامرين. أحذيتهم ملأى بالأعشاب والطحالب والعظام المفتتة. موج نيلى هادئ وصامت ليس فوقه سفن عملاقة ولا حاويات تتغابى أحيانا فتنحشر مؤخراتها فى الممرات المائية الضيقة. خمسون عاما قد مرت مثل فيلم متعدد الأزمنة. دقائق معدودة للطفلة البطلة ثم ممثلة أخرى ذات وجنة منتفخة للطفلة المراهقة ثم تأتى بطلة الشباك تلك التى يباع الفليم باسمها لتلعب دور البطلة فى العشرينيات والثلاثينيات.

ولأنها تكون مستبدة وغبية شأن معظم النجمات تصر على إكمال مشاهد البطلة فى الاربعينيات من العمر وفى الخمسينيات يضيفون الى شعرها المستعار بعضا من أبيض معجون الأسنان وتحت عينيها يضعون الحزن لتبدو كأنها عجوز.

فقط لا أعرف لماذا يجعلونها تتكلم ببطء.

 أفهم أن تمشى ببطء .أنا صرت أمشى ببطء لكن أحيانا أسبق ابنى الشاب وأطير. حينما أريد يأتينى جنى يسكننى. يسكن جناحى فأطير. فعلتها مرة واحدة وسط دهشة ابنى الذى لا يكف عن السخرية من خطواتى الباهتة. حين رآنى أطير مثل قاطرة حتى إنه لم يلحق بى فقط لأننى كنت أريد أن أبدأ عرضا مسرحيا يذكرنى بشىء قديم وغال. أحبببت ألا يفوتنى لحظة فتح الستار. كنت فرحة فعاد كل شيء. طرت فوق شوارع وسط البلد. خبطت فى أكتاف المارة وطرت. 

لم تكن قدماى تمسان الأرض. كنت سعيدة من فكرة أن أى وجه يمر على فقط يأخذ من عمرى جزءا تافها من الثانية.  بعدها  أتجاوزه. أعجبتنى اللعبة أكثرمن فكرة الوصول المبكر وأعجبتنى أكثر فكرة أن امرأة عبرت الخمسين يمكن أن يمسها جنى طيب فتطير مثل زمان مرة واحدة.
مرة وحيدة.

 بعدها عادت سعيدة وممتنة لدورها العادى فى طابور العجائز. المهذبين.

 مايو  2024