حبر على ورق

أوديب فى الطائرة

نوال مصطفى
نوال مصطفى

الرواية قصيرة تنتمى إلى نوع أدبى له جمهوره العريض على مستوى العالم، وهو «النوفيلا» أو الرواية القصيرة المكثفة

تبدأ الرواية القصيرة بأزمة، مشهد مشحون بالتوتر الشديد. تهبط الطائرة فى الموعد المحدد على أرض مطار السجن، ينتظر الجميع خروج الملك المخلوع «أوديب» من الطائرة، لكن باب الطائرة فتح، ولم يخرج منه أحد، فقط الحارس الشخصى للملك أوديب، وعندما سأله رئيس الأركان المكلف باصطحاب الملك إلى السجن: أين أوديب؟، رد بقلق: رفض النزول من الطائرة يا افندم.

من هذا الموقف المأزوم تأخذنا رواية الأديب محمد سلماوى «أوديب فى الطائرة» بأسلوب يمزج بين الواقع والفانتازيا، وأحداث تتراوح بين الفلاش باك ثم العودة إلى اللحظة الراهنة لنشاهد الملك أوديب فى أوج مجده وسلطانه، كيف كان يعامله هؤلاء الذين ينتظرون نزوله من الطائرة ليزجوا به خلف أسوار السجن، كان ذلك قبل أن تعصف به رياح المؤامرة من أقرب معاونيه، لتشتعل أصوات الشعب تطالب برحيله.

الرواية قصيرة تنتمى إلى نوع أدبى له جمهوره العريض على مستوى العالم، وهو «النوفيلا» أو الرواية القصيرة المكثفة، حيث تدور أحداثها فى 127 صفحة، قرأتها فى ليلة واحدة، جذبتنى من الصفحة الأولى حتى السطر الأخير بجمال الأسلوب وحرفية الكتابة. استخدم سلماوى الأسطورة الإغريقية فى مزج متقن بين أحداث واقعية عشناها جميعا فى 2011 وبين الخيال، جعل الملك المخلوع هو أوديب فى الأسطورة الإغريقية وما جلبه من لعنة على البلاد عندما اقترف جريمته النكراء بقتل أبوه ليتزوج أمه..

أعادتنى أحداث الرواية إلى أيام عصيبة عشناها، وشكلت جزءا مهما من تاريخنا الحديث، نجح الكاتب فى رسم تفاصيل وملامح الشخصيات من الداخل، كيف تحولوا مائة وثمانين درجة، من أقرب المقربين للملك إلى ألد أعدائه.

شعرت وأنا أقرأ أن هذا النص مكتوب بتكنيك المسرح، لذا أراه مرشحا بقوة ليتحول إلى عمل درامى مسرحى ساخر يناقش علاقة الحاكم بشعبه، ويكشف كيف تعمل بطانة السوء على فصل الحاكم عن شعبه، وعندما يحدث ذلك تبدأ الهوة بينهما فى الاتساع، وأول من يخسر هو الملك نفسه، ومعه تفقد الدولة الكثير من أصولها وقوتها أثناء الهدم والتخريب، ثم إعادة البناء..

هناك مشاهد واقعية جسدتها الرواية بدقة وجمال، تدور معظمها فى الساحة التى شهدت مظاهرات واعتصامات الشباب للمطالبة برحيل الملك (وكان واضحا جدا دون أن يذكر الكاتب اسم المكان إنه ميدان أو ميادين التحرير أثناء ثورة 2011)..

من خلال بترو وهيباتيا الشابين المليئين بالحماس والوطنية تركز الرواية على أحلام الشباب، ومعاناته من البطالة، والمحسوبية، وعدم تكافؤ الفرص، فقد تخرج بترو فى المعهد العالى للسينما بتقدير عال، وتوقع أن يتم تعيينه بالمعهد، وهكذا يضع قدمه على بداية طريقه فى الحياة، وفى نفس الوقت، كان يحلم بأن يشق طريقه فى السينما كمخرج للأفلام التسجيلية. كان يرى بلده «طيبة» -وهوالإسم الذى اختاره الكاتب لتكون البلد أو المكان الذى تدور فيه الأحداث- مليئة بالكنوز التى تصنع أهم الأفلام التسجيلية، وكان يحلم بتصوير كل هذا التاريخ والتراث ويبهر العالم من خلال اشتراكه فى المهرجانات العالمية.

كل هذه الأحلام ضاعت بعدما حصل ابن عميد المعهد على الوظيفة التى كان هو الجدير بها، فمضى فى الحياة يائسا يلتحق بأى عمل شريف يوفر له لقمة العيش، مندوب مبيعات، سائق أوبر، وعاش بترو حزينا على حاله، لكن حبه لهيباتيا كان هو الأمل الوحيد الذى يضئ حياته.

كان بترو من أتباع «بوسيبون» وهم أغلبية سكان طيبة، أما هيباتيا فكانت من أسرة تنتمى إلى أتباع «أورانوس»، وقد سالت دماء كثيرة بين الطائفتين وقت حكم لايوس، وحرم الزواج بين الطائفتين ولكن بترو وهيباتيا انتصرا لحبهما الصادق، ظل كل منهما على عقيدته، وتمسكا بحبهما ليضربا مثلا حيا على روح المحبة والتآخى بين الطائفتين اللتين تعايشتا فى سلام على أرض طيبة.

إنها « نوفيلا» جميلة، تستحق أن تقرأ. صدرت عن دار الكرمة للطباعة والنشر.