محمد عبد الرازق: لا يخيفنى حصر روايتى فى المنطقة البوليسية| حوار

محمد عبد الرازق
محمد عبد الرازق

في كتابه «ناس وأماكن» يتتبع الكاتب والروائى عادل عصمت التحولات البطيئة لقرية من قرى الدلتا كنموذج للتحول الذى جرى للريف المصرى كله فى العقد الأخير. الحوارى الضيقة والبيوت الطينية، الجرن والمندرة، السوق والوحدة الصحية والمستشفى والنادى الرياضي، الغيط والمقابر على الحافة، أشجار السنط والكافور القديمة، الترعة والمصرف، النداهة والجنيات، الراديو والكلوب وتجمعات الصيف فى الأحواش والأجران، أعمدة الكهرباء، التليفزيون وبداية العزلة، الوسعاية ومواقف السيارات وأحلام السفر، أشياء وأماكن «تشحن بالرموز بمجرد أن تغوص فى حياة الناس» وتشحن بالصور والمشاهد أيضا إذا أحسن استغلالها من كاتب متمكن من أدواته، وهو ما فعله محمد عبد الرازق باقتدار فى روايته الجديدة «بياض على مد البصر». 

يتجاوز قرية الزمن الحالى ويعود لبداية الألفية، وتحت ستار التحقيق فى جريمة قتل يحلل عبد الرازق بوعى وحساسية بالغة تحولات القرية المصرية فى لحظة فارقة، مساعى العيش ومحاولات التأقلم أو ما أسماه صاحب «الوصايا» بالشكل الجديد للأسرة الريفية الذى تجسد على نمط المدن، وكيف تخلخلت مفاهيم الأبوة والعائلة، وتحول ولاء الفرد إلى ذاته. وكيف أصبحت العائلات مجرد تجمع مشوه ظهر على أنقاض التجمع القديم بعد أن تم اقتلاع بشر من مكانهم الوحيد الملائم لهم. نماذج الرواية بالكامل يمكن اعتبارها دلائل لهذا التحول العميق، وضحاياه فى الوقت نفسه.  

أتذكر إن عادل عصمت قال إنه رأى فلاحين أصيبوا بالغم لإدراكهم أنهم فقدوا عالمهم القديم إلى الأبد، وهو بالتحديد ما جرى لمسعد وهالة بطلى «بياض على مد البصر»، لم يتحملا الاقتلاع من القرية ولا صخب المدينة ولا غرابة زملاء العمل فى المصنع والمشغل، اغتما بعد أن تيقنا من فقد عالمهما القديم، فأراح مسعد عقله فى غيبوبة المخدرات وكادت هالة تستسلم للإغواء فى لحظة ضعف، انفرط عقد الأسرة الجديدة وتمزقت، وكانت جثة ياسمين ابنتهما بمثابة إعلان صاخب على عدم التأقلم فى العالم الجديد.

كانت هذه النقطة منطلق حوارى مع محمد عبد الرازق، الذى أكد على الاختيار الواعى لهذه اللحظة بالتحديد، وقال إن تلك الفترة، فترة بداية الألفية، كانت أكثر الأوقات التى حدثت فيها تحولات أو بالأحرى ظهرت نتائج التحولات التى شهدها الريف المصرى منذ زمن الانفتاح والهجرة الكثيفة للعمال والمدرسين والمتعلمين للخليج. حدثت نقلة مختلفة تماما لبيئة القرية وبنيتها وهو ما يظهر فى وصف المكان وكيف تحول تحولا جذريا من البناء بالطوب اللبن للبناء بالخرسانة، ونهم الناس للبناء على الأراضى الزراعية، «البيئة نفسها تغيرت بسبب الهجرة فتغيرت الأفكار والثقافة». 



الرواية حسب رؤيته تطرح سؤالا عن مفهوم الفضيحة وكيف رغم التحول الكبير الذى حدث للريف مازال محكوما بأفكاره القديمة نفسها، «الأفكار حدث لها -رغم التقليب- تراجعا وليس علمنة، يمكن القول إن الرجعية سيطرت بشكل أكبر». الهجرة والتوسع العمرانى وتعليم البنات كلها أشياء كان يجب أن تساهم فى توسيع المساحة المتاحة للمرأة لكن ما حدث هو العكس أيضا، حدث انغلاق أكبر «وكأن الحداثة ما هى إلا حداثة شكلية فقط لا غير، فى حين تأخرت الأفكار بشكل أكبر مما كانت عليه».

التحديد الزمنى كان أوضح كثيرا فى «الوقوف على العتبات» روايتك الأولى حيث تدور فى يناير 2011 لكنها لا تخلو من إحالات للتسعينيات أيضا. اختيارات تبدو معها الأعمال كمشاريع مؤجلة، على أى أساس تختار الإطار الزمنى والفضاء المكانى لأعمالك بشكل عام؟
أى فكرة قصصية أو رواية تنبت عندى بالأساس من تساؤل ما، أو شيء يشغلنى لفترة طويلة. أسجل ملاحظات من وقت للآخر ثم تأتى لحظة تصبح الكتابة ضرورة ملحة. فى الرواية الأولى كان يشغلنى تفكيك «25 يناير» بعد عشر سنوات من حدوثها، خصوصا من زاوية بعيدة لم تطرق بكثافة وهى رؤية ما يسمى «حزب الكنبة». أما الرواية الثانية فنبتت فكرتها من مناقشة مع أصدقائى عن خبر مقتل فتاة. كانت الصياغة مكتوبة بانحياز يجعل من الضحية مذنبة، وهنا تولدت الأسئلة حول العنف ضد الفتيات فى الريف، وأن كل إنسان يملك بداخله صراعا بين ضحية وجلاد، وغيرها. 

أشعر أن مسيرة الكتابة واحدة، وهى محاولة تتبع الأسئلة المقلقة والإجابة عليها، رغم التباين فى ثيمات الروايتين. 

رغم المساحة الزمنية القصيرة بين عملك الأول والثانى إلا إنه يمكن القول إن الرواية الثانية تبدو أكثر نضجا. ما الذى حدث خلال هذه الفترة؟ 
قرأت أكثر، وكتبت أكثر، مررت بعدة تجارب شخصية حارقة غيرت من نظرتى لكثير من الأشياء، كتعاملى مع اللغة مثلا. بالإضافة إلى أننى أنجزت الرواية الثانية فى ورشة مقدمة من ستورى تيل وبإشراف الكاتبة منصورة عز الدين، وكان للورشة أثر كبير فى تطوير أدواتي.

بمناسبة الحديث عن الورش الأدبية هناك من يعارض هذه الفكرة على اعتبار أن الكتابة موهبة لا يمكن تعلمها.. 
تجربة الورشة كانت فارقة بالنسبة لي. كانت برنامجا متكاملا من منصورة عز الدين، ليس عن أجناس معينة، وإنما عن الكتابة كفن متكامل. كان هناك مساحة من الحرية فى تعبير كل مشارك عن ذاته وصوته الأدبى خاص، ولم يكن الأمر كأننا فى قاعة فصل مدرسي. ساعدتنا منصورة على تطوير المشاريع من خلال الأفكار والملاحظات والإحالات إلى قراءات مختلفة تناسب كل منا على حدة. بالإضافة إلى الاحتكاك بالمشاركين الآخرين، والتعرف على وجهات نظر أخرى فى الكتابة وعنها.
الكتابة فن مثل أى فن، له قواعد ومنهجيات مختلفة، فى الجامعات الأوروبية والأمريكية توجد كورسات متكاملة للكتابة الإبداعية، ولا يمكن أن يوجد كاتب محترف لم يخض تجربة الدراسة الأكاديمية للكتابة الإبداعية، أو على الأقل ماستركلاس. ربما نحتاج للتصالح مع فكرة دراسة الكتابة الإبداعية، على الأقل كى يستطيع الكاتب نقد كتابته وتعريفها بشكل منهجي، وتلمس خطواته الأولى.

فى السياق نفسه لو لم تكن الرواية الأولى صدرت فعلا هل كنت لتجرى عليها تعديلات جوهرية الآن؟ لو واتتك الفرصة للتغيير ما الذى تغيره هل كنت ستستخدم ضمير المخاطب مثلا. إلى أى حد تشغلك التقنية؟
أنا أعدل كثيرا، ولذلك أخجل من قراءة ما تمت طباعته، لأننى أشعر بالقلق والتقصير تجاهه. ورغم ذلك لن أغير ضمير المخاطب فى الرواية الأولى لأنه يعبر عن شيء جوهرى فى حياة البطل، لكن ربما سأعدل كثيرا فى الحبكات الفرعية وترتيب بعض الفصول. 

تشغلنى التقنية بالطبع، فى اعتقادى أنها ليست بهارات أو تزويقا شكليا، وإنما هى وجهة النظر الحياتية التى تعبر عن الشخصيات والقضايا التى نتناولها ونشتبك معها.

يمكن القول إن عنصر التشويق كان حاضرا بقوة فى الرواية الأولى، لذا ربما وجدت نفسك بسهولة فى ورشة الجريمة الأدبية. هل هذا صحيح؟ وبالمناسبة ما هى رؤيتك الشخصية لفكرة أو مصطلح «رواية الجريمة الأدبية»؟ 
يستخدم مصطلح «الجريمة الأدبية» لتعريف أجناس تمزج بين الرواية البوليسية والأدب الرفيع أو الجاد، وهى أجناس غير مطروقة بكثافة فى الرواية العربية، وربما كان هذا هو الهدف من الورشة. فيها اعتنت مسيرة الورشة بتوضيح الأجناس التى سنتطرق لها، مع التأكيد على الكتابة بحرية تتجاوز قيد التصنيفات. عموما أؤمن أن مهمتنا أن نكتب بجدية وإخلاص ثم تأتى التصنيفات فيما بعد. أما التشويق فلا غنى عنه اليوم، لا يمكن للكاتب -فى رأيي- أن يتخلى عن التشويق، خاصة وأن القارئ مشتت بشكل غير عادي.

رغم الشعبية الكبيرة لرواية الجريمة وللأدب البوليسى فى عالمنا العربى إلا أن النظرة له ربما تكون أقل من الأنواع الأخرى. هل فكرت فى هذا وهل تخشى من حصر الرواية فى هذه المنطقة فقط؟
هذه أسئلة لاحقة على النشر، وليست سابقة على الكتابة بالأساس. أعتقد أن الرواية تتجاوز هذا التصنيف الضيق، وظهر ذلك فى ردود القراء عليها. لا يخيفنى حصرها فى المنطقة البوليسية، لأن الرهان هنا على الجدية والطموح الذى تنطوى عليه الكتابة، ودائما ما يكون الأدب الجيد قادرا على تجاوز التصنيف والسباحة بحرية فى بحر القراءة الواسع.

المعتاد فى روايات من هذا النوع أن يحدث ما يشبه التواطؤ بين الكاتب والقارئ، بحيث يعرف القارئ الجناة من خلال الراوى أو حتى من خلال سير الأحداث، فى حين يتخبط الأبطال فى جهلهم.

لكنك اخترت العكس أن يعرف الأبطال ما لا يعرفه القارئ إلا قرب النهاية تقريبا، لتحافظ على السر/التشويق لأطول فترة ممكنه، وهى مغامرة ربما تفقد معها قارئ متعجل.. أم أنك كنت تراهن على قدرتك على الاستحواذ على انتباه القارئ للنهاية؟
 ربما راهنت على بعض الاستحواذ فعلا، لكن التواطؤ فى روايتى ليس كشف القاتل، بل ربما كشف سبب القتل، وما يطرحه من أسئلة حول مجتمع الريف ومفاهيمه عن الفضيحة.

البعض اعتبر روايتك الأولى عن الحب، وكانت عن الثورة بالنسبة لآخرين، ورواية اجتماعية بالنسبة لفريق ثالث، بينما تدور التأويلات بالنسبة للثانية فى مدارات الجريمة والشرف وتحولات الريف المصري.. كيف تنظر لفكرة التأويل وأنت كاتب النص؟
النص ملك للقارئ. أحاول دوما ألا ألتصق بنصوصي، وتركها تأخذ طريقها بين القراء بحرية. يختلف التفاعل والتأويل باختلاف القراءات، أحيانا تصلنى تأويلات لم تكن حاضرة فى ذهنى من الأساس، وهذا وارد، المهم أن يقدر النص على الاشتباكات مع أفكار القارئ ويحثه على التساؤل والتأويل.

تظهر الأحلام أو الكوابيس بكثرة فى العملين. بل حتى فى النص القصير فى كتاب «وزيز» عن البحر! تكرار يجعها أكبر من مجرد حيلة فنية. ما الذى تمثله لك؟
أنا أحلم بغزارة، والأحلام تفتننى بشكل مهول، تأسرنى فكرة تشييد العوالم من اللاشيء التى يعتمدها العقل الباطن فى الأحلام. فى الكتابة، الأحلام ليست حيلة فنية، وإنما هى ضرورة فنية، تساهم فى إثراء الشخصية، و»تأثيث» العالم الروائى الذى نتحرك فيه، ربما لأن الأحلام هى مرآة الواقع، أو أن الحياة ككل مجرد حلم، على حد تعبير بورخيس. 

فى العملين هناك حضور مهيمن للأم والجدة وحتى للأعمام والأخوال بينما هناك دائما أب غائب أو مغيب..
فى العمل الأول يغيب الأب لأنه مات فى التسعينيات، أما فى الثانى فهو موجود وفاعل فى القصة فى عدة منعطفات. غياب شخصية أو تغييبها يخضع بالأساس لظروف كتابة العمل والمنطقة التى يود اختراقها.

يبدو اعتناؤك بالجمل الافتتاحية واضحا.. ما الإضافة التى تمثلها لنصوصك وكيف تفكر فيها وتختارها؟
ربما هى أهم جملة فى الرواية ككل. أفكر فيها كثيرا، وأكتبها أكثر من مرة، أريد منها أن تعبر عن فحوى النص والطريق الطويل الذى سيسلكه القارئ معي. من كثرة انشغالى بها، حلمت بالجملة الافتتاحية للرواية الثانية، كما هى نصا، قمت من النوم ودونتها ثم توالى الفصل الأول بأكمله.

هل تتابع ردود الفعل حول أعمالك؟ وما معايير النجاح بالنسبة لك؟
أرى ردود الأفعال، وأهتم بالاستماع للآراء المختلفة، لأن كل رأى يمكن الاستفادة منه والبناء عليه، خصوصا الذى يسلط الضوء على السلبيات. 

النجاح كلمة فضفاضة، ربما حاليا سأقول إن التطور من عمل إلى آخر هو نجاح. وبعد وقت ستتغير الإجابة.

فى التعريف القصير بنهاية الرواية تقول إنك تحب الكتابة وتشك أنها تحبك بالمثل. متى بدأت علاقتك معها وما الذى تطمح إليه من ورائها؟ أريد التحدث أيضا عن الفترة السابقة للكتابة، ما القراءات التى شكلت وعيك وأين موقعها منك الآن؟

أنا دائما متشكك فيما أكتبه، وأرجو أن أصل به إلى أفضل صورة ممكنة. أطمح أن أكون حقيقيا دائما.

ربما بدأت علاقتى مع الكتابة من فترة بعيدة، حيث كنت أحاول تقليد القصص التى أطلع عليها فى مجلات الأطفال مثل ماجد وسمير وبراعم الإيمان وميكي. 

أتذكر بوضوح أننى فى الصف الثالث الابتدائى حاولت تقليد ما كنت أقرأ، فكتبت ورسمت قصة مصورة عن ولد يغرق فى بحيرة. مع القراءات المستمرة نمت الرغبة فى الكتابة باحترافية.

قبل نشر روايتى الأولى، احتككت بعدة مجموعات وأصدقاء منخرطين فى مجال الكتابة الإبداعية بشكل احترافي، وكان لذلك أثر كبير على تكوين رؤيتى وتوجهى فى الكتابة، وأخذ الأمر بجدية.

أنا أقرأ منذ الصغر، والفضل الأول فى ذلك لأبي، عبد الرازق علي، فقد كان لديه مكتبة ثرية جدا ومتنوعة، فى البداية أحضر لى مجلات الأطفال ثم كتابات مناسبة لسني، ومع الوقت بدأت التخصص والاستعارة من مكتبته، اهتممت أكثر بالكتب التى تعنى بفنى النثر والحكي، ثم مع الوقت بدأت تتشكل ذائقتى الخاصة، فى الصف الأول الثانوى قرأت ثلاثية نجيب محفوظ، وشعرت أنها لحظة كشف، أو كما يقول ربيع جابر: أدركت أن تأليف الروايات هو الشيء الوحيد الذى أريد فعله.