قدم نموذجا مبكرا للاستفادة من الآخر ووضع أسس الترجمة الحديثة

في الذكرى 151 لرحيل مؤسس التنوير العربي| الطهطاوي.. حامل نور الصباح

رفاعة الطهطاوي
رفاعة الطهطاوي

إذا اختيرت شخصية ثقافية لتكون الأكثر تأثيرا فى حياة المصريين الثقافية والفكرية والعلمية خلال العصر الحديث أى القرنين الماضيين، فإن اسم رفاعة رافع الطهطاوي سيطرح نفسه بقوة، فهذا الشاب القادم من الريف المصري والذى بدأ أولى خطواته العلمية فى الأزهر، لم يقف موقف الجمود أمام الجديد، بل نهل من التقدم العلمى الحاصل فى أوروبا عندما زار باريس، وبعد عودته إلى مصر تولى قيادة روح جديدة فى مصر لا تتنكر للتراث وماضيه ولكنها لا تقف أمامه موقف الجمود والتقليد الأعمى، ولا تنبطح أمام الغرب الأوروبى ومنجزه العلمي، بل تنقل منه خلاصة علمه وفكره وتسعى لزرعه فى تربة مصرية خصبة.

◄ حقق السبق فى الدراسات التاريخية بأول كتب عن السيرة ومصر القديمة

◄ المفكرون والمبدعون العرب اعترفوا بأستاذيته على مر الأجيال

قدم الطهطاوي النموذج الرافض لصراع الحضارات وقدم رؤية للاستفادة من منجز الآخر الحضارى. كان المفكر الأول فى مصر الحديثة والرجل الذى شق الطريق لكل من جاء بعده، لذا عندما نحتفل بذكرى وفاته الـ ١٥١، فإننا فى الحقيقة نحتفل بنور الصباح الذى حمله لنا وما نزال نعيش فى ضيائه رغم أنف طيور الظلام.

ولد رفاعة فى 18 أكتوبر 1801، ورحل عن عالمنا فى 27 مايو 1873، وبين التاريخين عاش حياة حافلة عكست تحولات مصر الكثيرة والمتلاحقة التى عاشتها فى القرن التاسع عشر، فقد ولد بعد نحو شهر من رحيل الغزاة الفرنسيين عن مصر بعد احتلال دام ثلاث سنوات، وأمضى سنواته الأولى في طهطا بمحافظة سوهاج حاليا، فى وقت شهدت القاهرة صعود نجم محمد على باشا السياسى، الذى أصبح واليا على البلاد منذ 1805، ومكّن لنفسه فى الأرض بعد التخلص من كل المناوئين له وصولا إلى مذبحة القلعة التى دبرها للتخلص من زعماء المماليك 1811، وخلال هذه الفترة كان الطهطاوى يحفظ القرآن الكريم ويتم دراسته الأولية، وعندما جاء إلى القاهرة للالتحاق بالأزهر الشريف فى سنة 1817، كان محمد علي قد بدأ مشروعه للنهوض بمصر على أسس المدنية الحديثة.

◄ اقرأ أيضًا | في ذكرى ميلاده.. رفاعة الطهطاوي..واعظ وامام في خدمة الجيش المصرى

فى الأزهر الشريف التقى الطهطاوى بأستاذه العلامة حسن العطار، الذى يعد واحدا من أهم الشخصيات التى تركت أثرها فى تكوين الطهطاوى، فقد أدرك العطار أن هناك مسئولية تاريخية على العلماء، بعدما لمس بنفسه البون الواسع بين أحوال الفرنسيين الذين جاءوا بعلوم حديثة ومعارف مختلفة، وبين أحوال المصريين، ولأنه أدرك من البداية أن الصراع الحضارى لا يحسمه السلاح بقدر القدرة على تطويع المعارف الحديثة، فقد قرر منذ البداية أن يوسع أفق تلاميذه ويدفع بهم للنهل من كتب التراث من ناحية مع مزجها بكتب العلوم فى أحدث صورها فى أوروبا، لذا عندما طلب منه محمد على باشا اختيار أحد تلامذته لإرساله إماما لأول بعثة علمية كبيرة إلى فرنسا سنة 1826، وقع اختيار حسن العطار على تلميذه النجيب رفاعة الطهطاوى ليكون عين العطار لرؤية ما فى فرنسا من علوم جديدة، لذا طلب من تلميذه أن يسجل كل ما يرى فى بلاد فرنسا، لكن الأغلب أنه كان تلميذا ضمن تلاميذ البعثة كما يتضح من تتبع كلام الطهطاوى نفسه فى كتاب رحلته.

وعندما زار فرنسا وضع نصب عينيه أن ينقل أسباب النهضة الأوروبية إلى المصريين، كأنه يسعى لنقل مشعل الحضارة من أوروبا إلى مصر لتعود كما كانت منارة العلم، لذا تعلم الفرنسية ليعرف تفاصيل الحياة العلمية فى فرنسا على أصولها، وبدأ يسجل تفاصيل رحلته فى كتابه الأشهر (تخليص الإبريز فى تلخيص باريز)، إذ درس الكثير من العلوم وبدأ فى عملية الترجمة لبعض هذه الكتب من الفرنسية إلى العربية خلال إقامته فى فرنسا التى استمرت لمدة خمس سنوات، وحصّل فيها الكثير من العلوم وبدأت تختمر فى ذهنه صورة واضحة عن أسباب تقدم الدول الأوروبية، ومكامن القوة التى يجب أن ينقله إلى مصر. 

عاد الطهطاوى إلى مصر 1831، فصدر أمر الباشا محمد على بتعيينه مترجما فى مدرسة الطب، فكان أول مصرى يحصل على هذا المنصب، وتنقل بين الكثير من الوظائف ذات الصلة بالتدريس والترجمة، وترجم الكثير من كتب الجغرافيا فى تلك الفترة، حتى افتتحت مدرسة الترجمة سنة 1835، والتى عين الطهطاوى مديرا لها، وهى المدرسة التى سرعان ما تغير اسمها إلى مدرسة الألسن، وتحولت الأخيرة إلى شعلة نشاط بفضل جهود الطهطاوى، يقول عن هذه المؤسسة الدكتور جمال الدين الشيال فى كتابه (رفاعة الطهطاوى: زعيم النهضة الفكرية فى عصر محمد على): «عاشت مدرسة الألسن نحو الخمسة عشر عاما بدأت فيها تسيطر على شئون الثقافة العامة فى مصر، وأنتجت فى إبانها الإنتاج العلمى الوفير، فلما ولى العرش عباس الأول - ولم يكن على انسجام مع رجال جده وعمه وخاصة رفاعة - أخذ يسعى سعيه للقضاء على هذه المدرسة»، ثم نجد عباس باشا يتخلص سريعا من الطهطاوى بإبعاده إلى السودان ليترأس مدرسة الخرطوم الابتدائية سنة 1849.

عاد الطهطاوى من السودان بعد إقامة استمرت لثلاث سنوات، بعدما رحل عباس باشا وتولى سعيد باشا حكم مصر، الذى بدأ فى تقريب الرجال الذين أبعدهم سلفه، لذا عهد إلى الطهطاوى برئاسة المدرسة الحربية وهو يحمل رتبة الأميرآلاى واستمر فى وظيفته تلك حتى العام 1861، عندما ألغيت المدرسة، ليظل الطهطاوى بلا عمل حتى تولى إسماعيل باشا أمور البلاد، والذى أعاد قلم الترجمة من جديد برئاسة الطهطاوى، الذى امتد نشاطه فى هذه الفترة إلى تنظيم المدارس بعدما عين عضوا دائما بـ «قومسيون المدارس»، وإلى هذه الفترة يعود تأليفه لكتابه النحوى (التحفة المكتبية فى القواعد والأحكام والأصول النحوية بطريقة مرضية)، بهدف مساعدة الطلبة على تعلم النحو، ولما لم يجد ما كتب مناسبا للمطالعة بين يدى الطلاب ألف كتابه (مباهج الألباب المصرية فى مناهج الآداب العصرية)، ثم كتابه (المرشد الأمين للبنات والبنين)، ونرى فى الكتاب الأخير دعوة الطهطاوى المبكرة لتعليم البنات.

كما بدأ الطهطاوي تنفيذ فكرته لكتابة تاريخ مصر من أقدم العصور حتى عهده، تحت عنوان (أنوار توفيق الجليل فى أخبار مصر وتوثيق بنى إسماعيل)، لكنه لم يتم إلا الجزء الأول منه والخاص بتاريخ مصر القديمة، كما ألف كتابا تاريخيا آخر بعنوان (نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز) وهى فى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نشرها مسلسلة فى مجلة (روضة المدارس) التى تولى رئاسة تحريرها منذ صدورها، ويرى الدكتور محمود فهمى حجازى فى كتابه (أصول الفكر العربى الحديث عند الطهطاوى)، أن الأخير نجح فى أن يؤصل التأليف التاريخى بالمنهج الحديث فى مصر من خلال كتابيه، خصوصا أنه اعتمد فى كتابة تاريخ مصر القديمة على الكشوف الأثرية الحديثة ليكون صاحب أول كتاب عربى يعتمد هذا النهج، كما يعد كتابه عن سيرة نبى الإسلام أول كتاب فى السيرة بمنهج حديث، «وبهذا يعتبر كتابه فى التاريخ القديم وتاريخ صدر الإسلام -بالإضافة إلى مراجعته لترجمة كتب مختلفة فى التاريخ الأوروبى القديم- تأصيلا للبحث التاريخى فى العالم العربى الحديث».

كل هذه الإنجازات الفكرية والمعرفية أهلت رفاعة الطهطاوى ليحتل مكانته باعتباره رائد النهضة الحديثة ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى كله، إذ يقول فهمى حجازى: «هكذا كان الطهطاوى صورة للتحول الثقافى من الأزهر فى أوائل القرن التاسع عشر إلى الحضارة الأوروبية فى فرنسا، وكان رائد العالم العربى الحديث فى أكثر من ميدان: الجغرافيا، التاريخ، التربية والتعليم، التثقيف السياسى، كما كان أول من ترجم فى هذه المجالات وفى الآداب الأوروبية والقانون، وبهذا يعتبر الطهطاوى بحق رائد الفكر العربى الحديث».

ويلخص الدكتور محمود أمين العالم رأيه فى مشروع الطهطاوى قائلا فى أحد أبحاثه: «إن رفاعة رافع الطهطاوى كان رائدًا طليعيًا من رواد النهضة الحداثية والتحديثية، داعيًا إلى تطويع الدين للاحتياجات والمنافع العصرية، والتوثيق بينه وبين المدنية الحديثة عامة، وكان العنصر المحرك الدافع فى فكره أساسًا هو العقلانية والرغبة الملحة إلى التمدن والتحضر، مستندًا فى هذا إلى الدين الإسلامى دون جمود سلفى أو انغلاق شوفينى». هذه الروح التى يلخصها العالم عن مشروع الطهطاوى هى أحوج ما نحتاج إليه فى اللحظة الراهنة، إن استدعاء روح مشروع الطهطاوى فى النهضة وهو رائدها الأول أمر حيوى وحتمى عندما تشرع مصر فى البحث عن طريقها إلى النهضة فى القرن الحادى والعشرين.

لذا لم يكن غريبا أن أجيال المثقفين والمفكرين المصريين والعرب على اختلاف مشاربهم يعترفون بسبق الطهطاوى وتنصيبه على عرش ريادة الإصلاح فى مصر والعالم العربى، فجاءت الكتب والمقالات التى تعترف بريادته منذ عصره إذ كتب تلميذه السيد صالح مجدى سيرة حياة أستاذه بعنوان (حلية الزمن بمناقب خادم الوطن)، لتتوالى الكتب التى تحتفى وتدرس وتنقد هذا الرجل الفذ الذى حمل مشعل التنوير، نذكر منها: (أبناء رفاعة) لبهاء طاهر، و(رفاعة الطهطاوى : رائد فكر وإمام نهضة) لحسين فوزى النجار، و(رفاعة الطهطاوى: رائد التنوير فى العصر الحديث) لمحمد عمارة، و(رفاعة الطهطاوى بك) لأحمد أحمد بدوى، و(رفاعة رافع الطهطاوي: رائد التنوير العربى المبكر)، والكتاب الجماعى (رفاعة الطهطاوى: رائد التنوير) والصادر عن المجلس الأعلى للثقافة، كما يمنح المركز القومى للترجمة جائزة سنوية فى مجال الترجمة تحمل اسم الطهطاوى اعترافا بدور هذا العلم الكبير فى بدء حركة ترجمة شاملة فى العالم العربى كانت أحد أسباب الانفتاح على العالم والسير فى طريق التقدم.