يوميات الأخبار

نيران صديقة

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

استعدتُ حكايات أخرى مشابهة، تورّط فيها أصدقاء ضُبطوا مُتلبسين بتهمة «زوغان العين»، لأنهم لم ينتبهوا لخطورة الأخطاء الصغيرة، ونسوا أن الشيطان يكمن فى التفاصيل.

أزواج تحت الرقابة!

الخميس:

هل هو تحذيرٌ ساقه القدر لى؟ 

سؤال خطر ببالى عندما اختطفنى «فيس بوك»، بمجرّد أن فتحتُ عينىّ صباحا، كعادة ملايين البشر ممن يبدأون يومهم بإطلالة عليه، حتى قبل أن يغسلوا وجوههم! بدأ اليوم إذن بطقس يومى، سرعان ما حفّز قرون الاستشعار المتكاسلة بداخلى، عبْر منشورٍ رصدتْ صاحبته ثلاث حالات لأزواجٍ ضُبطوا متلبسّين بتُهمة «اللعب بالذيْل». غالبا لم تفعل صاحبة المنشور ذلك من باب الفكاهة، فبعد معاينة حسابها تأكدتُ أن كل كلمة خرجتْ «مع سبق الإصرار والترصد»، ربما كتحذير واضح لشريك حياتها أنه بات تحت المراقبة.

ذكرت السيدة ملابسات ضبط الأزواج الثلاثة، وأشارتْ إلى أن الأول ارتكب خطأ تافها خلال مُحادثة ودية مع زوجته، التى فوجئتْ أنه على دراية بـ «ماركة» حقائب نسائية غالية وغير متداولة. قرّرت بغريزة الأنثى أن تتخلّى عن السلبية، وارتدتْ معطف شرلوك هولمز وتتبّعت حسابات صديقاته، حتى اكتشفتْ إحداهن وهى تمسك بحقيبة من هذه النوعية. غالبا يتعرض الزوج وصديقته حاليا لرقابة مكثّفة قد تكشف مفاجآت مثيرة.
زوجٌ آخر ادعى سفره إلى شرم الشيخ فى مهمة عمل. شريكة حياته الخبيرة بألاعيبه سجّلت الرقم المُثبت بعداد كيلومترات سيارته، وقارنتْه بالرقم الجديد بعد عودته، واستنتجتْ أن الفارق بينهما يكفى فقط للانتقال إلى الإسكندرية ذهابا وعودة، وبعد إجراء التحريات أدركتْ أنه سافر إلى عروس البحر مع سيدة أخرى.

تفاصيل الواقعة الثالثة لم تكُن لتظهر لولا وجود مُحرّض على ارتكاب فعْل الشكّ. بطلها رجلٌ مثاليٌ فى استقامته، يمنعه التزامه الشديد من الوقوع فى فخّ الأخطاء الأخلاقية. خرج مع زوجته وبعض صديقاتها، ولاحظتْ إحداهن أنه يُدندن بأغنية أطفال، كرّرها عدّة مراتٍ خلال زمنٍ قصير، مما جعل الصديقة الوفية تُنبّه الزوجة إلى أن تكرار هذه الأغنية مريب، خاصة أن أبناءهما كبار، وهو ما يعنى أن أذنيه تتعرضان لنغماتها كثيرا، حتى استقرتْ فى عقله الباطن. أخيرا كشفت التحريات أنه ارتبط بزوجة ثانية، وأنجب منها طفلا! 

قام المنشور بتنشيط ذاكرتى، واستعدتُ حكايات أخرى مشابهة، تورّط فيها أصدقاء ضُبطوا مُتلبسين بتهمة «زوغان العين»، لأنهم لم ينتبهوا لخطورة الأخطاء الصغيرة، ونسوا أن الشيطان يكمن فى التفاصيل، ثم يستخدمها بعد ذلك للوسوسة فى عقول النساء، وتكون النتيجة عادة وقوع الرجال فى شرّ أعمالهم. عموما أعتقد أنه لا تزال هناك فرصة متاحة لزوج كاتبة المنشور، كى يقوم بعملية تطهيرٍ سريعة لإخفاء أدلة اتهامه، فلو أن زوجته وصلت إلى قرينةٍ قاطعة على خيانته، لما اضطُرت إلى إطلاق عباراتها التحذيرية.

أخيرا، هناك دروسٌ مستفادة من الحكايات السابقة، أهمها عدم استعراض الرجل عضلاته عند الحديث عن «ماركات» الملابس والحقائب والعطور، وضرورة التخلى عن استعمال سياراته الخاصة قبل الشروع فى أية مغامرة عاطفية، عابرة لحدود مكان إقامته، ومن الأفضل تعطيل عداد المسافات فى حالة كوْن السيارة عنصرا أساسيا فى المغامرة. ويُفضّل أن يعمل كل رجلٍ بقوة، على «فك ارتباط» الزوجة بصديقاتها، فيكفيه جُهْد امرأة واحدة تتولى عدّ أنفاسه.. ربما يستطيع بعدها أن يتفادى توابع نار الغيرة.

فى النهاية أحمد الله أننى زوجٌ مخلص.. لم يقع فى شرّ أعماله حتى الآن!!

الحياة بين موْتين!

الجمعة:

ما أصعب أن ينتظر الإنسان إحدى نهايتين: موتٌ عاجل.. وموتٌ آجل! وبينهما باقة آلامٍ أقلّها الجوع والعطش. ما أسوأ أن يرى أحدنا أحبابه الراحلين يتحوّلون لأرقام فى نشرة أخبار، قد يُتابعها البعض بفتورٍ، بعد أن تراجع تأثير الصور الدموية، وصارت المذابح مجرّد قصة تذبُل، وسط تنامى شغفنا بحكاياتٍ تكتسب جاذبيتها.. من تفاهتها! 

أشعر بالملل من كلّ شيء، فأقلّب رسائل «واتس آب». العالم الكبير الدكتور صالح لمعى مواظبٌ على إرسال نُسخ «بى دى إف»، لجرائد تصدر داخل فلسطين. حرص على ذلك منذ سألتُه فى بداية الحرب الحالية، عن أية معلوماتٍ تتعلّق بما تم تدميره من آثار. أنشغل دائما بالبشر دون أن أتجاهل أهمية الحجر، باعتباره عنصرا أساسيا فى معركة استهداف الذاكرة. أتصفّح عددا عُمره أيام، من صحيفة «القدس» التى تصدر داخل الأراضى المحتلة، يتصدّر صفحته الأولى خبرٌ رئيسى عن شهداء مذبحة فى جباليا.

أتجاوز الأسى بالانتقال للصفحة التالية، يستوقفنى تقرير عن موتٍ مؤجّل يهدّد أهالى القطاع، يذكر أن الأمم المتحدة قدّرت نتائج الدمار الشامل بأكثر من 37 مليون طن من الركام. رقمٌ مهولٌ أعجز عن استيعابه، لكن يكفى أن إزالته تحتاج إلى 14 عاما من العمل المتواصل. إنها عملية إبادة للمبانى، تسعى لإزالة ملاذات البشر، وتمنع عودتهم إليها إلا بعد سنوات طويلة. الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فقد رجّحت المنظمة الأممية أن هذه الكمية الهائلة من الأطلال، تحتوى على نحو 7500 طن ذخائر لم تنفجر، مما يعنى أن هذه القنابل الموقوتة المتناثرة، سوف تحصد المزيد من الأرواح عقب إطلاق النار، ويتحول منزل الذكريات المنهارة إلى مشروع قبْر!

إنه عزفٌ مُمنهجٌ على أوتار الوحشية، يُفرز مخططا شيطانيا يمزج فى النهاية بين الموت.. وخراب الديار.

ليلة فى تابوت الملك

السبت:

تستوقفنى صورة نشرها الزميل ياسر عبد الحافظ، رئيس تحرير أخبار الأدب الحالى، تجمعنا بمؤسسها الأديب الكبير الراحل جمال الغيطانى على مدخل الهرم الأكبر. حدث ذلك قبل سنوات طويلة، بعد ليلة استثنائية أمضيناها فى حجرة الملك خوفو.

بدأت القصة فى منتصف عام 1998 بمكتب الغيطانى. طلب منا أفكارا لا تقتصر على دائرة الأدب، بل تتماس مع الثقافة بمنظورها الأشمل، بهدف اجتذاب شريحة أكبر من القرّاء. توالت اقتراحات الزملاء، وعندما حلّ الدور علىّ، تبنّيتُ فكرة إعداد ملفٍ مُوسّع عن الأهرامات، صمت الكاتب الكبير للحظات قبل أن يسألنى عن المحتوى، أجبتُ بأننى سأجهّز قائمة بالموضوعات، لكن لدىّ مبدئيا فكرتين محوريتين، الأولى عن عبدة الأهرامات، الذين كانوا يتوافدون من كل أنحاء العالم ليمارسوا طقوسا غريبة، نابعة من قناعات تمنح الهرم الأكبر مكانة استثنائية لديهم.

كنتُ بالفعل قد صاحبت فريقا برازيليا قبلها بأسابيع، وقضيتُ معهم ليلة كاملة داخل الهرم الأكبر، بصحبة الفنان الراحل يوسف ناروز، الذى التقط لهم صورا نادرة. سألنى رئيس التحرير عن الموضوع الثانى فأخبرتُه بأننى أنوى قضاء ليلة بمفردى وسط ظلام حجرة الملك. ساد الصمتُ للحظات، اتهمنى الغيطانى بعدها بالجنون، وعندما قرأ فى عينىّ أننى مصممٌ على الفكرة قال: وأنا معك.

ولأن الحماس ينتشر كالعدوى، اندفع الزملاء ليعربوا عن رغبتهم فى المشاركة بالمغامرة، وتوليتُ بعدها مهمة صعبة للحصول على تصاريح لمجلس تحرير الجريدة بالكامل تقريبا. دخلنا الهرم ليلا واختار كلٌ منا موضعه، قبل أن يطفئ أحد مفتشى الآثار الأنوار، لنعيش حالة فريدة وسط ظلام دامس. تمددتُ فى تابوت الملك أنتظر أشباحا، سبق لبعض المغامرين الادعاء بأنهم قابلوها خلال أمسياتٍ مشابهة، غير أن الأشباح تمنّعتْ وخيّبتْ أملى.. بعدها بأيام خرج عدد 26 يوليو 1998، بمانشيت فريد: «لأول مرة.. أخبار الأدب تصدر من داخل الهرم»!

حار نار صيفا!

الإثنين:
تقطع السيارات طريقها وهى تقاوم شراسة الحرّ، يفقد بعضها القدرة على الصمود فتتوقف، لتسدّ شرايين الشوارع والكبارى وتزيد إصابتها بالتصلّب. يصبّ الهواء الساخن لعنته على البشر والجماد، ويتحدى دراسات دولية اعتبرت الصيف الماضى الأشد ضراوة منذ سنواتٍ طويلة. يبدو أن الفصل الذى لن يبدأ رسميا إلا بعد أسابيع، قرّر كسر الرقم القياسى فى استحضار اللهيب. فى أحوال كثيرة يُنقذنى الشرود من المعاناة، خاصة عندما أنطلق إلى أحلام يقظة تنقلنى لعالمٍ مغاير، ألعب فيه دور بطولة أفتقده فى الواقع. 

هذه المرة أتأكد أننى ضحية مؤامرة، وأفاجأ بأن الخيال يتمرّد علىّ،  وتُحاصرنى ذاكرتى بأخبار الحرّ وجرائمه: تؤكد دراسة حديثة أنه يقتل 150 ألف شخصٍ على سطح الكوكب سنويا، ويشير تقرير آخر إلى أن خسائر المناخ تُكبد العالم 38 تريليون دولار كل عام. درجات الحرارة لا تكتفى إذن بفرض ديكتاتوريتها علينا بل تتحرش بالاقتصاد! قبل ساعات قرأتُ أن ارتفاع درجة واحدة يؤدى لانخفاض الناتج الإجمالى العالمى بنسبة 12%، وإذا كانت الزيادة ثلاث درجات تصبح النتائج كارثية، تتسبّب بانخفاضات تتجاوز 50% فى الإنتاج ورأس المال والاستهلاك، وهو أمرٌ متوقع بحلول سنة 2100.

أغلق أبواب الذاكرة ورائى، وأتابع الناس خلال انتقالهم فى شوارع المدينة بإيقاع بطىء. يهربون من الشمس إلى مساحة ظلٍ ليستْ أكثر رفقا بهم، بينما أستقبل داخل السيارة هبّات هواء بنكهة فُرْن جدّتى القديم، الذى ضاعتْ معالمه مع اجتياح الحداثة لقريتنا.

ظللتُ وفيا لعشق الصيف، غير أنه يعبث بمشاعرى مثل حبيبة تتمتع بعذاب عاشقها، ولو امتلكتُ حرية الاختيار لانتقيتُ فصلا بحلاوة ليالى الصيف واعتدال أجواء الخريف، ورعونة ربيع يفتتنا رغم تقلّباته، ولا أعتقد أننى سأختار من الشتاء أى شيء، كى لا أمنح أنصاره فرصة الشعور بالتشفى.. سوف أتحلّى بعنادى، مهما ظل الحر ينهش أرواحنا، ويُنهك أجسادنا بنيرانه الموقدة.. وقد أتمادى وقتها وأدعى أنها.. نيران صديقة!